في إحاطته الأخيرة أمام مجلس الأمن، تحدث المبعوث الأممي “عبد الله باتيلي” بلغة يغمرها اليأس والإحباط من القادة السياسيين الليبيين، متهما المتحكمين في زمام المشهد السياسي بالسعي الدؤوب للمماطلة، وعرقلة الإجراءات المؤدية للانتخابات، والمناورة المستمرة للالتفاف على تطلعات الليبيين. قائلا “مع شعور عميق بخيبة الأمل، فمن المحبط أن نرى أفرادا في مناصب السلطة، يضعون مصالحهم الشخصية فوق احتياجات بلدهم“.
كانت هذه الكلمات مقدمة لإعلان المبعوث الأممي عن تقديم استقالته للأمين العام للأمم العام للأمم المتحدة كمبعوث خاص لليبيا، في مؤتمر صحفي عقب إحاطته في السادس عشر من أبريل المنصرم.
لماذا الاستقالة؟
تأتي استقالة “عبد الله باتيلي” بعد أقل من عامين من تعيينه مبعوثا أمميا، بعد الانقسام الدولي الطويل حول تعيين مبعوث أممي لليبيا، ولعلى استقالة “باتيلي” لا تأتي بعيدة عن السياق الدولي، الذي يشهد انقساما حول المشهد السياسي الليبي، واختلافا حول سبل معالجة أوضاعه، وهو ما انعكس بشكل مباشر على الحالة الليبية ، وسبب انسدادا سياسيا خانقا صعّب من مهمة “باتيلي” بل جعلها مستحيلة.
آراء أخرى تتحدث عن العقبات التي واجهت باتيلي في التعامل مع الأطراف المحلية، والتي تبدو مستفيدة من الانقسام الدولي، وانشغال الفواعل عن ليبيا؛ ما جعل مهمة اقناع الساسة الليبيين بإجراء الانتخابات في غاية الصعوبة، وكأنها دعوة كل طرف للتخلي عن نفوذه وسلطته، دون ضغوط دولية حقيقية، أو حاجة سياسية تدفعه لتقديم التنازل المطلوب.
ولعل ذلك ما أشار إليه المبعوث الأممي في إحاطته بالقول: ” أصبحت ليبيا ساحة للتنافس الشرس، بين الجهات الفاعلة الإقليمية والدولية؛ بدافع من المصالح الجيوسياسية والسياسية والاقتصادية، فضلا عن المنافسة التي تمتد إلى ما هو أبعد من ليبيا، وتتعلق بجيرانها”.
مضيفا “التدافع المتجدد على ليبيا، وموقعها ومواردها الهائلة، بين اللاعبين الداخليين والخارجيين؛ يجعل الحل بعيد المنال”.
فريق آخر من المراقبين يرى أن استقالة “باتيلي” لا تأتي إلا في سياق استعادة الولايات المتحدة الأمريكية لزمام المبادرة، إذ أن تعيين الدبلوماسية الأمريكية “ستيفاني خوري” نائبا للمبعوث الأممي قبل شهر، عُد إشارة واضحة لمحاولة إعادة سيناريو “ستيفاني وليامز”، التي تولت رئاسة البعثة بالإنابة أول الأمر؛ لتسيير البعثة والتعجيل بإقامة الحوار السياسي، الذي أنتج مشهدا سياسيا جديدا.
وذكرت الأمم المتحدة إن “خوري” تتمتع بخبرة تتجاوز 30 عاما في دعم العمليات السياسية، ومحادثات السلام، والوساطة في حالات النزاع وما بعد النزاع، بما في ذلك منطقة الشرق الأوسط، وذكرت أيضا أنها عملت مع الأمم المتحدة منذ أكثر من 15 عاما في العراق، ولبنان، والسودان، وسوريا، واليمن. وأوضحت الأمم المتحدة أن “خوري” عملت قبل انضمامها إلى الأمم المتحدة زميلة باحثة في كلية الدراسات الشرقية والأفريقية، ومع عدد من المنظمات غير الحكومية، بما في ذلك منظمة “البحث عن أرضية مشتركة”.
التداعيات المحتملة:
لم تترتب بعد على” استقالة “باتيلي” أي تداعيات سياسية تذكر على المشهد السياسي الليبي ، ولعل سبب ذلك تراجع نشاط البعثة السياسي في الأشهر القليلة الماضية، خاصة بعد اندلاع الحرب في غزة في السابع من أكتوبر من العام المنصرم، والتي شغلت الرأي العام العالمي، واهتمام الولايات المتحدة الامريكية على وجه الخصوص.
مراقبون يرون أن استقالة “باتيلي” جاءت متأخرة، خصوصا أنه لم يستطع التقدم خطوة واحدة للأمام نحو مبادرته الأخيرة، التي أعلن عنها في إحاطته أمام المجلس الأمن، والتي تضمنت تأسيس لجنة عليا للانتخابات.
من المتوقع أن تعيد استقالة “باتيلي” الجدل والخلاف والاتهام المتبادل بين أعضاء مجلس الأمن المنقسم حول الأزمة الليبية منذ العام 2011م، والذي واجهة صعوبة في تعيين مبعوث أممي بالتوافق بين الدول ذات العضوية الدائمة في مجلس الأمن صاحبة حق النقض، بسبب تباين رؤيتها وتعارض مواقفها، خصوصا فرنسا وروسيا، حيث تمضي كل منهما في مسار مناقض للولايات المتحدة، التي ترى الانتخابات ضرورة لبناء حالة استقرار سياسي؛تؤدي لتقويض النفوذ الروسي في البلاد.
على صعيد أطراف السياسية الليبية، فإنه في حال مباشرة “ستيفاني خوري” أعمال تسيير البعثة بالإنابة؛ فإن المتوقع أن تتعاطى الأطراف بجدية أكبر، خصوصا وأن الديبلوماسية الأمريكية ستمثل امتدادا لجهود المبعوث الأمريكي الخاص “ريتشارد نورلاند”، وتكون صدى للدور الذي لعبته ستيفاني ويليامز فترة المبعوث غسان سلامة وبعد أن استملت البعثة إثر استقالته، ما قد يمثل ضغطا سياسيا على الأطراف المحلية المستقوية بالأطراف الإقليمية، ويعطي للبعثة دفعة في مسارها، متمتعة بالثقل والنفوذ الأمريكي، والتي قد تكون أكثر فاعلية في الضغط على الأطراف المحلية؛ كمجلس النواب، والدولة، وحفتر، وحكومة الوحدة، والتي تبدو أنها قد وصلت لإطار محدد وغير معلن في العلاقة قائم على التكيف والاستفادة من الوضع الحالي قدر الإمكان، وخفض التوتر ، والحرص على تقاسم المكتسبات السياسية والمالية.
مستقبل المشهد السياسي:
يبدو المشهد السياسي الليبي في حالة انسداد مستمر، ومن غير المأمول أن ينتهي هذا الانسداد بمجرد تغيير مبعوث أممي، أو تغيير في موظفي البعثة الأممية، فليست البعثة في الحقيقة إلا انعكاسا لمجلس الأمن والمجتمع الدولي، والذي لا يبدو أنه على وفاق في معاجلته للمشهد السياسي الليبي.
وبالنسبة للمتفائلين بتولي الأمريكان لزمام المبادرة، فإن هذا التفاؤل قد تكدره الانتخابات الأمريكية، التي ستجري نهاية العام الجاري، والتي قد تأتي “بترامب” الرئيس الجمهوري، صاحب التوجه السياسي الرامي لخفض الاهتمام الأمريكي بالقضايا الدولية، والاكتفاء بالاهتمام بالاقتصاد، ومعالجة مشاكل تراجع الأسواق في الولايات المتحدة الأمريكية، ومعلوم أن فترة رئاسته شهدت هجوم حفتر على العاصمة طرابلس بمباركة البيت الأبيض، عبر مكالمة أجراها ترامب مع حفتر.
هناك أيضا التعبئة العسكرية شرقا وغربا، فالروس دفعوا بأسلحة ثقيلة وغيرها تم إنزالها في مناطق نفوذ حفتر، يقابل ذلك دعم لوجستي وتدريب لقوات الغرب الليبي برعاية أمريكية، حيث يثير هذا المشهد القلق لدى مراقبين الذين يرون أن الجمود الحالي قد يدفع إلى صدام، ويستدعي استدراك يمنع تفجر الوضع.
هذا التحليل يقود إلى نتيجة هي أن المشهد السياسي الليبي مقبل على نشاط للبعثة الأممية، قد يحرك الماء الراكد ضمن الدوائر المعنية بالتسوية السياسية وهي مجلس النواب والمجلس الأعلى الدولة، ويُلزم أطراف أخرى بالانخراط في الحوار، إلا أن الانتقال من مرحلة الجمود السياسي الحالي إلى مرحلة أخرى، سواء كانت انتخابات، أو تشكيل حكومة جديدة، يتطلب جهدا أمميا لكبح جماح الأطراف الإقليمية واحتواء أي توتر تحركه أطراف دولية، التي تجد في الوضع الراهن ضمانة لمصالحها في البلاد، وتتخوف من أن يكون التغيير المحتمل في توجه ومسار البعثة على حساب نفوذها في البلاد.
من جانب آخر، فإن الحالة السياسية الليبية اليوم يبدو أنها قد وصلت إلى منتهاها في الوضوح بشأن انتفاء الظهير الشعبي، والمشروعية السياسية، وتآكل الشرعية القانونية؛ ما يعني أن استمرار المشهد على ما هو عليه غير ممكن على المدى الطويل، خصوصا مع تردي الأوضاع الاقتصادية والعزلة السياسية، التي تحاصر الأجسام السياسية المختلفة، والرغبة الشعبية في التغيير، والتي تُرجمت بالتسجيل الكبير الذي شهدته المفوضية الوطنية العليا للانتخابات.
وقد يشهد المشهد معالجة سياسية أو ربما عملية جراحية دقيقة؛ فيما يتعلق بالحكومة، والتي يبدو أن الخناق قد ضاق عليها بعد الخلاف الأخير مع المصرف المركزي، وعدم حصولها على الميزانية، التي تسير أعمالها فيما عدا الابواب الثابتة كالمرتبات والدعم، ما قد يمهد لحالة من التوافق بين الأطراف السياسية، وفي قلبها حكومة الوحدة الوطنية ممثلة في رئيسها؛ لإجراء تغيير على صعيد الوزارات، وتشكيل جسم وزاري جديد؛ يضمن تمثيل الأطراف المختلفة؛ ما قد ينتج عنه حالة من الاستقرار، هي ضرورية لإجراء الانتخابات عموما، والتي لا يمكن أن تجري في ظل الانقسام بين الحكومتين شرقا وغربا، وعدم اعتراف مجلس النواب بحكومة الوحدة الوطنية، التي تسّير مهام الحكم في طرابلس دون ميزانية محددة من مجلس النواب، وبعيدا عن رقابة الجهاز التشريعي للدولة.



