Skip to main content

مقدمة:

يُعتبر تعيين المجلس الرئاسي لمحمد الشكري محافظًا لمصرف ليبيا المركزي، بدعوى تنفيذ قرار مجلس النواب لعام 2018 بشأن تشكيل مجلس إدارة جديد، بمثابة نقطة تحول في الأزمة السياسية. فقد رفض كل من مجلس النواب والمجلس الأعلى هذا القرار بدعوى عدم اختصاص المجلس الرئاسي، بينما تمسك الصديق الكبير ونائبه بممارسة مهامهما ورفض القرار. وهذا الوضع قد أبرز ذروة الأزمة التي يعاني منها المصرف المركزي منذ فترة، بالإضافة إلى التوترات الأمنية المرتبطة بالخلاف حوله، مما يعكس استمرار الانقسام والصراع السياسي في البلاد.

 التحفظات على أداء إدارة المركزي وعلى سياساته النقدية التي أدت، حسب بعض الاقتصاديين، لفقدان العملة الوطنية لقيمتها، بالإضافة إلى ممارسات أخرى اعتبرها البعض مسوغا لإقالة المحافظ، فبحسب تصريحات للدكتور عمر زرموح لشبكة عين ليبيا فإن مجلس إدارة المصرف المركزي لم يعقد إلا اجتماعا واحدا منذ 2014 ،في حين أن قانون المصارف ينص على أن مجلس إدارة المصرف المركزي يجب أن يجتمع اجتماعا واحدا على الأقل مرة في  كل شهر، ومن الواضح أن التحفظات المثارة من قبل مجموعة من المراقبين والاقتصاديين، بصرف النظر عن الاتفاق أو الاختلاف معها، ليست هي السبب الرئيس أو الوحيد وراء قرار المجلس الرئاسي الأخير، وأن التجاذبات والتوترات السياسية والمصالح المختلفة للفرقاء، لها دور محوري وراء اتخاذ قرار الإقالة.

التداعيات الاقتصادية لاستمرار الأزمة:

أسباب وتفاصيل النزاع والخلافات السياسية التي تقف وراء هذه الأزمة ليست محل اهتمام هذا التقرير، وإنما الغاية هي رصد التداعيات المتوقعة على الاقتصاد الوطني، وتحديدا على الاستقرار النقدي ومستوى عيش الليبيين، خصوصا إذا طال أمد الأزمة، أو تعقدت وتشابكت خيوطها، واستمر مصرف ليبيا المركزي في تعليق أعماله، واستمر الجدل حول شرعية إدارته. يمكننا بشكل عام ومباشر تحليل وتوقع مجموعة من التداعيات لعل أهمها ما يلي:     

أزمة في سوق العملات الأجنبية: في الفترات التي تتميز بعدم اليقين بشأن سياسات الاقتصاد الكلي، وفي ظل وجود ظروف سياسية واجتماعية غير مستقرة، تميل أسعار السوق الموازية إلى الاستجابة بسرعة للتغيرات المستقبلية المتوقعة في ظروف الطلب والعرض ، وإذا علمنا أن استخدامات المصارف التجارية للنقد الأجنبي قد ارتفعت بشكل ملحوظ في الفترة السابقة، حيث بلغت في سنة 2023  أكثر من 21 مليار دولار أمريكي، بزيادة حوالي 5 مليار عن استخدامات المصارف التجارية للنقد الأجنبي في 2022، وأن الفرق بين إيرادات واستخدامات النقد الأجنبي حقق عجزا قياسيا بلغ حوالي 9.9 مليار دولار أمريكي، وهو الأعلى في الثلاث سنوات الماضية بحسب الأرقام الواردة في بيان مصرف ليبيا المركزي عن الإيراد والإنفاق لسنة 2023، وكذلك بلغت استخدامات والتزامات النقد الأجنبي حتى نهاية يونيو 2024 مبلغ 18 مليار دولار، بزيادة حوالي 4 مليار عن الشهر الذي سبقه، في حين بلغ إجمالي ما تم توريده إلى مصرف ليبيا المركزي خلال نفس الفترة مبلغ 9.1 مليار دولار فقط، إضافة لذلك فإن تقديرات البنك الدولي تشير إلى استخدام القطاع غير الرسمي السوق الموازي لتمويل أكثر من ثلث الواردات خارج النظام المصرفي، فإن كل ما سبق  يشير بوضوح إلى وجود خلل في التوازن بين الطلب والعرض، وأن المعروض لا يلبي فائض الطلب الموجود أصلا، وبالتالي  إذا استمرت الأزمة الحالية وعلق مصرف ليبيا المركزي أعماله لفترة أطول، فإن هذا سيؤدي بلا شك إلى ارتفاع الطلب على العملة الأجنبية بشكل حاد ومتسارع، كما أن محدودية الوصول إلى سوق الصرف الرسمي سيؤدي إلى انخفاض حاد في المعروض من العملة الصعبة، خصوصا وأنه بحسب كثير من المتابعين فإن بيع النقد الأجنبي للأغراض الشخصية، وتسريب العملة الصعبة من المصرف المركزي والمصارف التجارية عن طريق الاعتمادات الوهمية، هما المصدر الرئيس لتغذية السوق الموازي بالعملات الأجنبية، وعليه فإن توقف المركزي عن بيع العملة للأفراد و تمويل الاعتمادات يقلل أيضا من مصادر السوق الموازي من العملة، الأمر الذي سيفاقم الفجوة ويتسبب بضغوط تضخمية على سعر العملات الأجنبية بحسب كثير من المراقبين؛ ما سيؤدي لمزيد من التدهور في قيمة العملة المحلية أمام العملات الأجنبية.

أزمة عرض في سوق السلع وزيادة الأسعار: شكلت الاعتمادات المستندية ما يعادل 60% من استخدامات المصارف التجارية للنقد الأجنبي سنة 2023 بقيمة قدرها 12.5 مليار دولار أمريكي، وبلغت الاعتمادات المستندية حتى يوليو 2024 حوالي 6.8 مليار دولار، وبالتالي فإن توقف مصرف ليبيا المركزي عن تحويل العملة الأجنبية للمصارف سيؤدي إلى مشكلة في سوق السلع، وبحسب تقرير استخدامات المصارف للنقد الأجنبي الصادر عن مصرف ليبيا المركزي- إدارة الرقابة على النقود، قد شكلت طلبات القطاع الخاص أغلبية طلبات المصارف الموافق عليها لتغطية الاعتمادات المستندية بواقع 14,272 طلبا، أي حوالي 97% من إجمالي الطلبات، وتصدرت الطلبات تغطية استيراد آلات التشغيل والإنتاج بحوالي 18% ، تلتها استيراد السلع والمواد الغذائية بمعدل 10% ،وبلغت طلبات استيراد مواد البناء والتشييد أكثر من 800 مليون دولار، في حين بلغت قيمة الأدوية المستوردة 294 مليون دولار أمريكي، وإذا علمنا أن سوق السلع في ليبيا يعتمد في أغلبه على الاستيراد، فإن تعثر تنفيذ الاعتمادات المستندية كنتيجة لإطالة أمد الأزمة، سيكون تأثيرها المباشر في شكل انخفاض في المعروض من هذه السلع  وصعوبة توفيرها؛ ما سيؤدي إلى ارتفاع أسعارها، وكنتيجة للجوء القطاع الخاص إلى السوق الموازي لتلبية احتياجاته من العملة الصعبة بأسعار مرتفعة؛ للاستيراد وتقليص فجوة العرض في السلع، فإن ذلك سيشكل ضغطا على أسعار هذه السلع؛ ما سيؤدي إلى ارتفاع معدلات التضخم في المدي المتوسط وحتى القريب، خصوصا في المواد الأساسية من مواد غذائية و أدوية ومواد بناء.  

أزمة السيولة: وإذا طال أمد الخلاف حول المركزي، فإن ذلك قد يقود إلى تأزم مشكلة السيولة النقدية، فإنه إضافة لتوقف إمداد مصرف ليبيا المركزي للبنوك التجارية بالسيولة النقدية اللازمة، لمقابلة الطلب على النقد – والتي بلغت حتى يونيو الماضي وحدها مبلغ 32 مليار دينار لفروع المصارف التجارية بكافة المدن الليبية، وفي سنة 2023 تم توزيع مبلغ 106 مليار دينار لفروع المصارف التجارية –  فإن الأفراد وعلى رأسهم التجار سيفقدون الثقة المتزعزعة أصلا في النظام المصرفي، وبالتالي سيُحجمون عن إيداع أموالهم في البنوك التجارية؛ ما يضاعف من مشكلة السيولة النقدية، و يجعل الحصول على النقد في حد ذاته تكلفة، ويؤدي إلى تسوية المدفوعات بآليات غير رسمية، وبعمولات تزيد من الضغوط على الأسعار وعلى معدلات التضخم، مثل: شراء الشيكات المصرفية من المستخدمين النهائيين بجزء أقل من قيمتها الإسمية.

 ولا شك أن نقص السلع وارتفاع أسعارها وعدم توفر السيولة النقدية، كلها تزيد من معاناة ذوي الدخل المحدود؛ وتؤدي لتآكل القوة الشرائية لديهم؛ ما يعقد مشكلة الفقر ويزيد من حدتها في المجتمع.

الاقتصاد غير الرسمي: التعامل مع السوق الموازي للحصول على العملة الأجنبية، وإجراء المعاملات التجارية خارج النظام المصرفي نتيجة لانعدام الثقة فيه، والإحجام عن إيداع الأموال في البنوك التجارية؛ سيؤدي إلى تضخم الاقتصاد غير الرسمي، أو ما يعرف باقتصاد الظل؛ وهذا سيؤدي بشكل مباشر إلى تراجع إيرادات الضرائب، التي تعاني من الضعف حتى قبل الأزمة الحالية، نفس الأمر ينطبق على إيرادات الجمارك، خصوصا مع السعي للاستيراد من السوق الموازي ودخول البضاعة المهربة – والتي تشكل في حد ذاتها مشكلة من حيث الرقابة على مواصفات الجودة، وطرق نقلها، و انتعاش سوق التهريب والجريمة -– كذلك فإن مرتبات القطاع الخاص ستسوى بشكل أوسع  نقدا خارج الإطار الرسمي؛ ما يحرم صندوق الضمان الاجتماعي من الإيرادات، ويُفقد العمال الحماية الضمانية، بالإضافة  إلى زيادة حجم الإنتاج في الاقتصاد غير الرسمي؛ سيؤثر بلا شك في احتساب الناتج المحلي الإجمالي، ويعطي مؤشرات مضللة للاقتصاد الكلي ولصانعي السياسات الاقتصادية.

وكذلك زيادة عمليات تداول النقد خارج النظام الرسمي يزيد من فرص غسيل الأموال، وتمويل عمليات العصابات المنظمة، وكذلك زيادة فرص تدفق الأوراق النقدية المزورة، وماله من أثر سلبي لا يخفى على الاستقرار النقدي.

أما أبواب الإنفاق في الميزانية فقد تتوقف تماما في أسوأ سيناريو متوقع؛ ما سيصيب الحكومة بالشلل التام في أداء وظائفها في الداخل والخارج، ويعرقل أيضا صرف الميزانية الاستثنائية لتطوير وتنمية المؤسسة الوطنية للنفط والشركة العامة للكهرباء؛ مسببا أزمات متعددة، تخلق حالة من التوتر الاجتماعي والأمني والسياسي قد لا تحمد عواقبها.

الخلاصة:

قد يعتبر البعض ما سبق من تداعيات مجرد قمة رأس الجليد، خاصة إذا وضعنا في الاعتبار أزمة الثقة التي ستخلقها  في الأوساط المالية الدولية، والأثر الذي سيطال الالتزامات الليبية في الخارج، والتأثير السلبي على قرارات مجلس الأمن بخصوص تجميد الأموال الليبية، وجهود المؤسسة الليبية للاستثمار لرفعها أو التخفيف منها، وغيرها من التداعيات، ينما يمكن أن يجادل البعض بأن التداعيات السابقة قد تكون مبالغًا فيها، وأن الأمر ليس بهذا القدر من السوداوية، ولكن الذي لا يختلف فيه اثنان أن لهذه الأزمة تكلفة وثمنا بغض النظر عن الحجم، تُدفع فاتورتها على حساب أمن و سلم المجتمع الليبي ، وعلى حساب استقرار ونمو اقتصاده الوطني، وعلى حساب تماسك مؤسساته السياسية والاقتصادية، وعلى حساب رفاه الليبيين وأمنهم في قوتهم، وأنه من الضرورة حلحلة هذه الأزمة في أقرب وقت ممكن، من خلال الحوار بين جميع أطراف النزاع المعنية، وبالطرق والأساليب القانونية، في إطار توافقي يُغلّب المصلحة العامة، وينأى بالمصرف المركزي عن الصراع والتجاذبات السياسية.