مقدمة
عاد معبر رأس اجدير إلى تصدّر المشهد مؤخراً بعد التصريحات الأخيرة التي أدلى بها وزير الداخلية المكلف بحكومة الوحدة الوطنية اللواء عماد الطرابلسي، خلال مؤتمرٍ صحفي بمقر الوزارة حول الأحداث الأخيرة والمتمثلة في اشتباكات حصلت بالمعبر نتج عنها طرد مجموعة تابعة لجهاز إنفاذ القانون من قبل مجموعة من المسلحين من مدينة زوارة المتاخمة للحدود الليبية التونسية، وقد تم إرسال هذه المجموعة بناءً على تعليمات الوزير لاستلام مهام متعلقة بمكافحة التهريب، والمساهمة في العمل الأمني بالمعبر وفقاً لما قاله في المؤتمر.
هذا ومنذ سقوط نظام القذافي عام 2011 وحصول حالة من الفراغ الأمني في كافة المصالح والمنشآت الحكومية، اتجهت التشكيلات المسلحة بكل مدن ومناطق ليبيا إلى السيطرة على هذه المنشآت وتسييرها من الناحية الأمنية وفي أحيانٍ أخرى استغلالها لمآرب سياسية واقتصادية.
إدارة المعبر
من ناحية الهيكلية والاختصاصات الممنوحة للجهات العاملة بالمعبر لم يتغير الوضع عن ما كان قائماً قبل أحداث عام 2011، فلازالت ذات الجهات تعمل بالمعبر بشكلٍ شبه طبيعي فيما يتعلق بالإجراءات، ولكن لدواعي متعلقة بالتوازنات السياسية والاجتماعية في ليبيا عامةً وخاصةً في المنطقة الغربية أصبح للجهات الممثلة لمدينة زوارة سواءً على الصعيد السياسي أو العسكري التأثير الأكبر على عملية إدارة المعبر سواءً بشكلٍ رسمي أو غير قانوني.
وبالتالي فإنّ الأجهزة العاملة بالمعبر تعمل بشكلٍ مباشر تحت إمرة الوزارات والأجهزة الحكومية بالعاصمة طرابلس، ولكنها غير قادرة على فرض السيطرة التامة عليه وتنفيذ الإجراءات القانونية كما يجب أن تكون، ويتجلى ذلك في صورٍ عديدة أهمّها تفشي ظاهرة التهريب والتي كانت وفقاً لتصريحات وزير الداخلية المكلف الذريعة الأساسية للتصعيد الأخير.
قضية التهريب
بينما يبدو ظاهرياً بأنّ الأجهزة الأمنية الرسمية تمارس مهامها في المعبر من حيث الإجراءات الأمنية والجمركية، إلا أنّ قضية تهريب المحروقات بشكلٍ رئيسي وغيرها من السلع عن طريق المعبر كانت واضحةً للعيان، وهي ليست بجديدة ووقعت حتى زمن النظام السابق، إلا إنها تفاقمت بشكل كبير وصار لها تداعيات اقتصادية وأمنيةخطيرة، وأسهم تفاوت الوضع الاقتصادي وتباين الأسعار بين البلدين، خاصةً فيما يتعلق بأسعار الوقود، إلى تكريس الوضع الراهن الذي تديره شبكة المصالح الخاصة غير القانونية.
بعد حالة الفراغ السياسي التي شهدها البلدان وخاصةً من الجانب الليبي أخذ التهريب منحنى تصاعدي حتى أصبحت ظاهرة طبيعية وتمارس من خلال البوابات الرسمية التي يمر منها المسافرون بين البلدين، وأصبحت سوق عملٍ يغذي فئةً واسعةً من سكان المنطقة الممتدة من الحدود التونسية وحتى مدينة الزاوية الليبية شرقاً، حيث أصبح الوقود سلعةً شبه منعدمة بمدن الساحل الغربي الليبي في نطاق المناطق المذكورة أعلاه، وقد نشأ عن هذا التدفق مجموعات مسلحة لها غطاء اجتماعي تدافع بالقوة عن استمرار هذه الظاهرة على اعتبار أنّها مصدر دخلٍ مهم لهذه المناطق كجماعات وللشباب العاملين في هذا المجال حتى وصل الأمر لتبرير الظاهرة بانتشار البطالة وسوء الظروف المعيشية وغيرها.
ولقلة البيانات في هذا الصدد سنكتفي باقتباس وزير الداخلية المكلف كونه ممثلاً عن السلطات الرسمية في قوله أن معبر رأس جدير يعدّ من أكبر منافذ التهريب في العالم، حيث تخرج منه سيارات التهريب بالآلاف وتمر عبره يوميا 30 شاحنة نفط إلى تونس وكذلك آلاف المهاجرين، مشيرا إلى أن قيمة ما يتم تهريبه عبر المعبر أسبوعيا تصل إلى 100 مليون .
التداعيات الأخيرة
منذ نهاية العام المنصرم وعند زيارته للمعبر أدلى وزير الداخلية المكلف بعدة تصريحات تحدث فيها عن ضرورة مواجهة ظاهرة التهريب من خلال المعبر الحدودي بين ليبيا وتونس، وقد قام خلال زيارته للمعبر بلقاء عدة شخصيات من بينها مسافرين وسائقي شاحنات وغيرهم من الفئات المتضررة من طول مدة الانتظار للدخول إلى الجانب التونسي، وظهر في عدة تسجيلات مرئية يستمع فيها لمشاكلهم واحتجاجاتهم، وقد صاحب هذه الزيارة بعض التغييرات الهيكلية المتعلقة بإدارة المعبر حيث كلف العميد خيري شنقارو مديرا للمعبر كما تم تكليف قوة من قبل غرفة العمليات المشتركة للدفاع عن المنطقة الغربية والجنوب الغربي بمتابعة آلية تنفيذ القرارات الصادرة من الجهات المختصة بشأن معبر رأس جدير الحدودي.
ولكن لدواعي متعلقة بالتوازن السياسي والاجتماعي في المنطقة الغربية لم تصمد هذه “الإصلاحات” طويلاً وحصل التصعيد الأخير، وقبل التطرق لتفاصيل التصعيد وجب الإشارة إلى أن هذه المسببات متعلقة بشكل أو بآخر بتقاسم السيطرة على المنشآت الحكومية بين المناطق من جهة، بالإضافة إلى بعض الحساسيات التي وصفها بعض قيادات مدينة زوارة وبعض الشخصيات بالمجلس الأعلى لأمازيغ بأنها ذات أبعاد عرقية وجهوية متمثلة في كون الوزير المكلف ينتمي لقبيلة الزنتان الليبية وكان له دور بارز في الصراع الليبي خلال العقد المنصرم ما قد يعتبره قيادات زوارة والأمازيغ خطراً على أهم مراكز نفوذهم في ليبيا، وتقوم الحجة هنا على أنّ جماعات قبلية وتشكيلات مسلحة في كافة مناطق ليبيا تسيطر على منشآت حساسة وتفاوض من خلالها لتحقيق مصالحها وفقاً لتعبيرهم، وأنه من غير المقبول التركيز على زوارة وتجاهل المعابر المرافق الحيوية الأخرى التي يسيطر عليها مكونات جهوية، إلا إذا كان الدافع جهوي، حسب قول البعض منهم!
وتمثلت الأحداث الأخيرة بشكلٍ أساسي في وقوع اشتباكاتٍ بين إدارة إنفاذ القانون التابع للداخلية ومسلحين من مدينة زوارة، نتج عنها إغلاق المعبر حتّى إشعار آخر من قبل الوزارة، كما تم سحب الموظفين العاملين بمديرية الأمن ومركز الشرطة ومصلحة الجوازات والجنسية، وتم نقل أجهزة الكشف الآلي وسيارات التفتيش إلى داخل الأراضي التونسية، لحمايتها من التخريب وفقاً لتصريحات الوزير.
الاتفاق وإعادة فتح المعبر
أُعلن مؤخرا عن الوصول إلى اتفاق يقضي بإيجاد آلية للتنسيق بين الجهات المعنية، توجهت على إثره قوة عسكرية من عدة كتائب تابعة لرئاسة الأركان وتحت إشراف المنطقة العسكرية الغربية وبالتنسيق مع غرفة العمليات العسكرية زوارة، إلى منفذ رأس جدير من أجل التجهيز لإعادة افتتاحه من قبل الجهة المختصة. وأظهرت عدة صور ومقاطع فيديو متداولة على مواقع التواصل الاجتماعي وصول القوة المشتركة إلى المعبر وتمركز عناصرها وانتشارهم في المنطقة تمهيداً لإعادة فتحه وتأمينه.
ويأتي الاتفاق نتيجةً لمساعي حكومة الوحدة الوطنية لتجنب صراعٍ مسلح يعقد المشهد ويفقدها دعم أمازيغ ليبيا في المشهد السياسي الليبي، فقد شدّد رئيس الحكومة ووزير الدفاع المكلف عبد الحميد الدبيبة، خلال اجتماعه مع مساعد رئيس الأركان صلاح النمروش، على ضرورة أن يقتصر عمل القوة العسكرية المشتركة على بسط الأمن في معبر رأس جدير، بعيدا عن التجاذبات السياسية والقبلية، داعيا البلديات والأعيان إلى دعم سلطة الدولة في كافة المنافذ.
خلاصة وتوصيات
الجدل الذي شارك فيه نخبة من غير دائرة النزاع حول معبر راس اجدير يقوم في أغلبه على التجاذب بين موقفين: الأول ينطلق من مقولة “جت على راس اجدير وزوارة”، بمعنى أن التجاوزات والفساد منتشر فلما التركيز على مدينة واحدة ومكون واحد، ويقبل من هذا الموقف مبدأ العدالة والشمولية في سياسات وقرارات الحكومة وعدم الوقوع في شرك التحيز والمحركات الفئوية والجهوية والقبلية والمناطقية، فيما يرى أصحاب الرأى الآخر، أنه من غير المقبول تبرير ما وقع ويقع في المعبر بغياب سلطة الدولة، خصوصا ونحن نتحدث عن أهم معبر بري في البلاد، وظاهرة التهريب تتفاقم بشكل خطير وتفرض تداعيات لا يبرر السكوت عنها وجود خروقات وفساد في معابر ومرافق حيوية أخرى.
غير أن الإدارة الحكيمة لهذه الأزمة قد تنتهي إلى التخفيف من الظاهرة وتكون نموذجا يحتذى به بل تيسر اتخاذ إجراءات مشابهة في معابر ومرافق أخرى تشهد تسيبا ويقع فيها تجاوزات كبيرة، وبمفهوم إدارة الأزمة على مستوى البلاد فإن التحول إلى وضع أفضل يكون من خلال خطوات صارمة وتدريجية فتتراكم النتائج، غير أن المعالجة تقتضي الأخذ في الاعتبار ما يلي:
– ينبغي أن يشيع لدى جميع الأوساط أن المصلحة العامة أولى وأجل وأن سلطة الدولة ينبغي أن لا تكون محل جدال وأن ظاهرة تنفذ اصحاب المصالح الخاصة والمجموعات المسلحة وتورطهم في فساد لا يمكن تبريره.
– يجب أن تتبنى السلطات النافذة رؤية ومقاربة وسياسات شاملة لا تحيز فيها لمعالجة الظواهر الخطيرة من تهريب وفساد وينبغي أن يرى أثر ذلك فيما يمكن إصلاحه وتصحيح في كافة المناطق ولجميع المؤسسات.
– لابدّ من أخذ الحساسيات القبلية والسياسية بعين الاعتبار عند التعامل مع القضايا من هذا النوع وذلك لكون هذه المنشآت تعبّر عن مصالح وجودية بالنسبة للمناطق التي تسيطر عليها، خاصةً مع الأخذ بعين الاعتبار مدى شيوع الحالة في ليبيا، وتقديم الحكومة لمثال حي عن المحاصصة على الأسس القبلية والجهوية على أن لا يكون ذلك على حساب مبدأ السيادة وسلطة الدولة.
– جزء كبيب من قضية تهريب المحروقات يكمن حلّه في تعزيز الإجراءات الأمنية ومجابهة الفساد الإداري في المعابر، ولكن قضية التهريب يجب النظر إليها بشمولية أكبر ليؤخذ بعين الاعتبار سياسة دعم المحروقات وتزويد المحطات الوهمية بشحنات الوقود من قبل المؤسسات الحكومية.
– لابدّ من تجنّب تسييس المشاكل من هذا النوع وتسخيرها لخدمة غايات سياسية متعلقة بالترويج لشخصيات سياسية بعينها على حساب حلحلة الجذور الحقيقية للمشكلة.