Skip to main content

مسألة ريعية الاقتصاد الليبي واعتماده بشكل أساسي على إيرادات النفط وآثار هذ الاعتماد السلبي على النمو والرفاه المجتمعي كانت ولاتزال من أهم المواضيع التي بحثها المختصون والمهتون بالاقتصاد الوطني، وهناك شبه إجماع بين هؤلاء على ضرورة بناء هيكل اقتصادي تتنوع فيه مصادر الدخل وتكون للقطاع الخاص مشاركته الفاعلة، وقد أعاد تقرير مصرف ليبيا المركزي الأخير حول الإيراد والإنفاق العام بشكل أو بآخر هذه المسألة إلى السطح من جديد.
تكتسب هذه المسألة أهمية خاصة بحيث بالكاد تخلو منها أي رؤية استراتيجية طرحت على الطاولة في العقود الماضية آخرها رؤية 2030، وتعكس المؤشرات الاقتصادية الأساسية هذا المعضلة بوضوح، حيث يقدر ما تمتلكه ليبيا من احتياطي نفط، حسب مصادر عدة، 48 مليار برميل، ما يعد الأكبر في القارة، وتشير الأرقام أن إيرادات النفط والغاز تمثل حوالي 97% من الإيرادات العامة و 80% من الناتج المحلي الإجمالي، الحال الذي أكده التقرير الأخير للمصرف المركزي بصورة واضحة حيث شكلت الإيرادات النفطية أكثر من 97% من الإيرادات العامة لسنة 2022 مقارنة بحصة متواضعة للإيرادات الضريبية. في هذا التقرير سوف نحاول أن نتناول بشكل موجز بعض أوجه مسألة اعتماد الاقتصاد الليبي على النفط وتداعياتها.


تقلبات أسعار النفط


تتأثر أسعار النفط الخام بمجموعة متشابكة من العوامل، منها عوامل تتعلق بجانب العرض والطلب، ومنها مصالح الشركات الكبرى ومنها سياسات الدول المنتجة للنفط من خلال منظمة أوبك وغيرها، وفي أحايين ليست بالقليلة تلعب المحركات الجيوسياسية ونفوذ الدول الكبرى دورا أساسيا في التأثير على أسعار النفط من خلال فرض العقوبات تارة ومن خلال ممارسة الضغط على الدول المنتجة للنفط تارة أخر. ماسبق ساري الأثر على الكميات المنتجة أيضا بالإضافة للعوامل الأمنية، الأمر الذي يؤدي إلى تقلبات في أسعار الخام وفي الكميات المنتجة منه كما هو واضح في الأشكال التالية.

من البيانات التي نشرها مصرف ليبيا المركزي نلاحظ أن أسعار النفط شهدت تغيرا ملحوظا خلال الفترة زمنية من 2004-2021 حيث تراوح سعر البرميل من حوالي الأربعين وصولا إلى أكثر من مئة دولار. نفس الحال يمكن مشاهدته بالنسبة لكميات الإنتاج حيث تراوحت نزولا من حوالي 600 مليون برميل إلى أقل من 140 مليون برميل في السنة.

ومن السهولة بمكان الانتباه إلى تذبذب النمو الاقتصادي الليبي صعودا وهبوطا بدرجة قد تبدو متقاربة من التغيرات في أسعار النفط والكميات المنتجة منه تقريبا في نفس الفترة الزمنية.

وقد خلصت ورقة للباحث عبدالرازق التلاوي، درست العلاقة بين النمو الإقتصادي كمتغير تابع وأسعار النفط كمتغير مستقل للفترة 1988 – 2019 باستخدام نموذج السلاسل الزمنية إلى وجود علاقة طردية موجبة بين المتغيرين في المدى القصير والطويل مما يجعل الإقتصاد الليبي عرضة لتقلبات سعر النفط بحسب الدراسة.


التضخم


رصدت دراسات ارتفاع معدلات التضخم في الاقتصاد الليبي بشكل قياسي في ثمانينيات القرن الماضي كـأثر لتدني أسعار النفط وبالتالي تدني الإيرادات النفطية حيث سعت السلطات آنذاك إلى تقليص الواردات السلعية عبر مجموعة قيود وضعتها كسياسة احترازية فيما يبدو للحد من العجز في الميزان التجاري كنتيجة تلقائية لتقلص الصادرات النفطية التي تشكل أكثر من 90% من مجمل الصادرات، الأمر الذي تسبب في حدوث فجوة بين الطلب والعرض الكليين كنتيجة لانخفاض الواردات، مما انعكس في صورة معدل تضخم مرتفع نسبيا مقارنة مع فترات سابقة، ولا يخفى آثار التضخم السلبية على الاقتصاد بصفة عامة حيث ينخفض الدخل الحقيقي للفرد ما يترتب عليه انخفاض القوة الشرائية ومعدلات الطلب الكلي وغيرها من الآثار التي تتراكم في سلسة متوالية قد تؤدي لحدوث ركود اقتصادي في نهاية المطاف.


انكشاف الاقتصاد على الخارج


تمثل صادرات القطاع النفطي أكثر من 95% من الصادرات السلعية للخارج في المتوسط، ما يجعل النفط هو المسيطر على هيكل التجارة الخارجي، حيث نلاحظ أنه حتى في الفترات التي تدنى فيها انتاج النفط إلى أقل من 140 مليون برميل في السنة، كان القطاع النفطي يمثل أكثر من 92% من إجمالي الصادرات السلعية، ما يشكل مؤشرا واضحا على تدني جوهري في مساهمة القطاعات الاقتصادية الأخرى في تركيبة الصادرات الليبية. وإذا وضعنا في اعتبارنا حقيقة أن الإيرادات النفطية تمثل النسبة الأكبر من إيرادات الدولة وهي في نفس الوقت تغطي مجمل النفقات العامة وتمول جل الواردات التي تلبي النسبة الأكبر من الطلب المحلي فإننا ندرك انكشاف الاقتصاد الليبي على الخارج بشكل جوهري.

ونظرا لحساسية سلعة النفط الخام كسلعة عالمية تتأثر بمجموعة من العوامل الخارجية أسلفنا ذكرها تأتي في مقدمتها العوامل الجيوسياسية، فإن هذ يجعل الاقتصاد الليبي عرضة لعوامل خارجية خارجة تماما عن سيطرته تجعله في مهب التقلبات العالمية مما يحد من قدرته بشكل أساسي على تحقيق أية أهداف تنموية مستقبلا.
النفط وأسعار الصرف
يكاد أن يكون قطاع النفط هو المصدر الوحيد لتوريد العملة الصعبة كما يظهر ذلك جليا من خلال الأرقام التي ينشرها مصرف ليبيا المركزي حول إيرادات واستخدامات النقد الأجنبي، الأمر الذي يجعل حصيلة الإيرادات النفطية من العوامل الرئيسية التي تؤثر بشكل مباشر ووثيق في سلوك سعر صرف الدينار الليبي والمقصود هنا سعر الصرف الحقيقي وليس سعر الصرف الاسمي.
ولقد اظهر إغلاق حقول وموانئ النفط خلال السنوات 2013-2017م كيف أن تغيير سعر الصرف بات من بين أبرز الخيارات لمواجهة تداعيات تلك الإغلاقات والتي من بينها النقص الحاد في السيولة لدى المصارف وارتفاع الأسعار وزيادة عجز الميزانية وارتفاع الدين العام.

الاقتصاد الليبي والنفط وفرص التنويع


لا شك أن اكتشاف النفط في ستينيات القرن الماضي كان يمثل تحولا إيجابيا على المستوى الاقتصادي والاجتماعي، فقد وفر تدفقات نقدية كبيرة لخزانة الدولة ساهمت في رفع معدلات النمو الاقتصادي وزيادة مستوى الدخل الحقيقي وخلق فرص عمل كما وفرت منصة تمويلية أساسية لتنفيذ خطط تنموية طموحة على مستوى البنى التحتية ساهمت في طفرة عمرانية من شبكات طرق وجامعات ومؤسسات صحية كما ساهمت من خلال توفير فرص متساوية لتعليم ذو جودة في تهيئة و تطوير مهارات الموارد البشرية لسوق العمل. إلا إن انعطافا وقع في مسيرة النمو والتنمية بعد التحول الاشتراكي خلال الثماينينات وما بعدها أتى على كثير من الانجازات التي تحققت، فصار تبني هيكل اقتصادي متوازن تتنوع فيه مصادر الدخل ويقلل الاعتماد على النفط خيار لا بديل عنه.
ولعله من المنطقي البدء بخطط تتجه إلى تطوير الصناعات البتروكيماوية ذلك أن المادة الخام لهذه الصناعة من النفط والغاز متوفرة. ومن خلال تطوير هذه الصناعة يمكن تلبية طلب السوق المحلي على كثير من المنتجات الحيوية في مجالات عديدة تدخل هذه الصناعة في إنتاجها كالمجال الطبي والزراعي والغذائي وغيرها من السلع التي ستساهم في خفض فاتورة الواردات من جهة من خلال إحلال الصناعات المحلية مكان المستوردة وبالتالي تقليل انكشاف الاقتصاد على الخارج، وكذلك تضيف قيمة إقتصادية مهمة للنفط الخام المنتج.
الساحل البحري الطويل الذي تمتلكه ليبيا يمثل فرصة حقيقية لتطوير الصناعات التي تعتمد على الثروة البحرية حيث يمكنها أن تلبي السوق المحلية وتساهم أيضا في هيكل الصادرات بشكل فاعل، كذلك الانتاج الزراعي والحيواني، وفرص انتاج الطاقة المتجددة كالطاقة الشمسية بالإضافة إلى خطط طموحة لتطوير الصناعات التقنية، وقطاع السياحة وغيرها من الفرص المتاحة التي تمثل طيف واسع من الخيارات المتاحة لإحداث تنمية إقتصادية حقيقية بشرط أن تكون شراكة القطاع الخاص أساسية خصوصا المشاريع الصغيرة والمتوسطة، وهو ما يتطلب تطوير بنية تشريعية جديدة تمثل قاعدة أساسية لانطلاق الأعمال تأتي في مقدمتها تسهيل الحصول على التمويل بالإضافة إلى تطبيق سياسات إقتصادية تشجع المنتجات المحلية وتعطيها قدرة تنافسية أمام المنتجات المستوردة.


الخلاصة


إن الثروة النفطية التي تتمتع بها البلاد تمثل نعمة بما توفره من إمكانات استرتيجية في طريقها إلى أن تتحول إلى نقمة في حال استمرار الاعتماد الكلي عليها وما تبع ذلك من تغول للقطاع العام دون وجود إنتاج يضيف قيمة حقيقية للاقتصاد، الأمر الذي يستلزم اتخاذ خطوات فورية من قبل صناع القرار في المدى القصير كما في المدي الاستراتيجي الطويل تهدف إلى إعادة هيكلة الاقتصاد بشكل متوازن منتج يكون فيه للمشروعات الصغيرة والمتوسطة خاصة الشبابية دور الريادة ويتراجع فيه دور الدولة إلى وضعه الطبيعي من خلال التشريعات و السياسات والأدوات المالية والنقدية وكمراقب وضامن لبيئة اقتصادية سليمة و صحية.