Skip to main content

اختلف الاقتصاديون في تعريف اقتصاد الظل وتحديد مفهومه، ولعل الاختلاف في مفهوم هذه الظاهرة يرجع إلى الزاوية التي ينظر منها لتفسيره، فبينما ينظر البعض إلى اقتصاد الظل من ناحية حجم الناتج المتولد منه ينظر آخرون إلى الظاهرة من جهة حجم التهرب الضريبي أو بالنظر إلى حجم العمالة غير الشرعية ومدفوعات الضمان الاجتماعي.

اقتصاد الظل والذي تعددت تسميته من الاقتصاد الموازي، فالاقتصاد غير الرسمي، والاقتصاد السفلي، والاقتصاد غير المرئي، والاقتصاد الخفي، جميعها يشير إلى الانشطة ذات الطبيعة الاقتصادية، الإنتاجية والتوزيعية، والتي لا تندرج ضمن النظام الإداري والمالي الرسمي للدولة ولا تظهر قيمتها في الناتج المحلي الإجمالي.

وقد بدأ الاهتمام باقتصاد الظل في سبعينيات القرن الماضي حيث ظهرت دراسات تنبه على هذه الظاهرة وعلى حجمها المتنامي في الاقتصادات النامية منها والمتقدمة على حد سواء، وبالرغم من وفرة الدراسات التي تناولتها لاتزال الأسباب المؤسسة لاقتصاد الظل تتباين بين وجهات نظر الباحثين.

حجمه في الاقتصاد الليبي

اختلفت الدراسات في تقدير حجم اقتصاد الظل في الاقتصاد الليبي تبعا لاختلاف طرق تقديرها والفترات التي قدرت فيها، فبينما تقدره بعض الدراسات بنحو 3.2 % من الناتج المحلي الإجمالي، تقدره أخرى بحوالي 8.3 %، و23% في دراسة ثالثة.

 هذه التقديرات إذا ما قورنت بحجمها في الدول النامية التي تتراوح بين 35 – 44 % أو دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية مثلا التي تتراوح بين 14-16 % من الناتج الإجمالي المحلي بحسب بيانات منشورة، فإن حجم اقتصاد الظل يعتبر منخفضا في ليبيا إلى حد كبير. غيره أنه لا يمكن التسليم بدقة هذه التقديرات لعدة اعتبارات:

أولا: الأخذ في الاعتبار أن الأنشطة الاقتصادية النفطية تمثل الجزء الأكبر من الاقتصاد الليبي إضافة إلى تضخم حجم النشاط الاقتصادي للدولة – وبطبيعة الحال هذه الأنشطة لايمكن أن تدرج ضمن اقتصاد الظل – وأعدنا بعد ذلك تقدير حجم اقتصاد الظل من الأنشطة الاقتصادية غير النفطية وغير الحكومية فإنه بلا شك سيكون تقدير حجم وأثر اقتصاد الظل مختلفا.

ثانيا: كمية النقود المتداولة لدى الجمهور ونسبتها إلى الودائع تحت الطلب في البنوك يعد من المؤشرات المهمة الدالة على حجم اقتصاد الظل والتي استخدمت بكثرة في التقديرات المتعلقة بالاقتصاد الليبي، فزيادة نسبة النقود المتداولة إلى الودائع تحت الطلب قد تدل على زيادة حجم اقتصاد الظل حيث تدار المعاملات المالية فيه باستخدام النقد ما يؤدي إلى زيادتها في التداول، وتشير الأرقام المنشورة في بيانات مصرف ليبيا المركزي إلى ارتفاع هذه النسبة حتى وصلت إلى أكثر من 45% في سنة 2018، إلا أن عدم تطور أدوات المعاملات المالية ولجوء الغالبية العظمى إلى استخدام النقد لتسوية مدفوعاتهم قد يقلل من دقة هذا المؤشر كوسيلة لقياس الظاهرة.

 ومن ناحية أخرى تفترض هذه الوسيلة ثبات سرعة تداول النقود في الاقتصاد الرسمي وغير الرسمي وهو افتراض نظري لا يستند إلى بيانات أو دراسات امبيريقية وإنما وضع لملائمته لتطبيق النموذج المستخدم في القياس. وتستلزم هذه الطريقة تحديد سنة أساس يفترض فيها أن اقتصاد الظل يساوي الصفر، وهو افتراض غير منهجي يخضع لتقديرات عشوائية في الغالب.

ثالثا: إذا ماتم تقدير نسبة العاملين في اقتصاد الظل بغض النظر عن الناتج المتولد عنه فإن حجم  سوق العمل في النشاط الاقتصادي غير الرسمي قد يبدو مرتفعا، حيث تشير أرقام مصلحة العمل إلى وجود 700 ألف عامل وافد 250 ألف منهم فقط يعمل بشكل رسمي. بلا شك هذا العدد الكبير للعمالة غير الرسمية يحرم صندوق الضمان الاجتماعي من تدفقات نقدية كبيرة، ويشير بوضوح إلى أن ظاهرة اقتصاد الظل في الاقتصاد الليبي قد تكون أعقد بكثير مما تبدو عليه لأول وهلة.   

رابعا: هناك أيضا التحويلات للخارج بالعملة الصعبة لأغراض الاستيراد، وبحسب مصادر رسمية فإنه بالنظر إلى قيمة التحويلات عبر المصارف وتلك التي تجرى من خلال السوق الموازي للعملات، فقد بلغت التحويلات  عبر السوق الموازي نحو 55% من إجمالي التحويلات الخارجية، وهذا مؤشر قوي على عظم حجم اقتصاد الظل، مع التنبيه أن ارتفاع وانخفاض التحويلات عبر السوق الموازي ارتبطت بحالة عدم الاستقرار في سعر صرف الدولار أمام الدينار وكذلك مدى توفر العملات الصعبة في المصارف بشكل سلس لمقابلة الطلب المستمر والمتزايد عليها.

أسبابه بروز اقتصاد الظل

تناولت الدراسات مجموعة من الأسباب التي قد تكون وراء ظاهرة اقتصاد الظل منها لجوء الحكومات إلى زيادة الضرائب لتغطية العجز في الموازنة مثلا، كذلك تشير كثير من الدراسات إلى ملاحظة زيادة حجم اقتصاد الظل في الدول التي تنتشر فيها ظاهرة الفساد مقارنة بالدول التي تتمتع برقابة وحوكمة قوية وتقل فيها مستويات الفساد. أيضا ندرة السلع ومحاولة الدولة وضع سقف سعري أعلى لهذه السلع تساهم أيضا في تنامي الاقتصاد الموازي. ومن ضمن الأسباب التي تناولتها الدراسات التي بحثت هذه الظاهرة في الاقتصاد الليبي تضخم دور الدولة في النشاط الاقتصادي الوطني وزيادة البيروقراطية والتشريعات والقيود المفروضة.     

آثار اقتصاد الظل

يرى معظم الاقتصاديون أن لاقتصاد الظل مجموعة من الآثار العكسية على الاقتصاد الوطني أهمها عرقلة السياسات المالية والنقدية الحكومية التي تهدف إلى استقرار الاقتصاد حيث تؤدي البيانات الاقتصادية الغير دقيقة والمشوهة – مثل بيانات معدلات البطالة ومستويات التشغيل، والناتج الإجمالي المحلي، و مستوى الأسعار ومستوى الادخار، كنتيجة لعدم تضمنها لبيانات نشاط اقتصاد الظل – إلى تبني سياسات لا تعكس الواقع الاقتصادي من ناحية، وقد يؤدي إلى عدم فاعلية هذه السياسات من ناحية أخرى. كذلك عدم الكفاءة في توزيع الموارد ونشوء بيئة مناسبة لتزايد الجرائم الاقتصادية، بالإضافة إلى الأثر السلبي على معدلات النمو حسب كثير من الدراسات، كما يسهم اقتصاد الظل في خلق عمالة خارج أي اطار حقوقي أو قانوني معرضة لسوء الاستغلال ولانتهاك أبسط حقوقهم الأساسية، والحرمان من أي ضمانات تأمين في حالات إصابات العمل وعند التقاعد ما يساهم في تعميق مشاكل الفقر ومايترتب عليها من مشاكل إجتماعية وإقتصادية لا حصر لها، هذا علاوة على أن مخرجات اقتصاد الظل لا تخضع لمتطلبات ومقاييس الجودة.

بالمقابل، هناك وجهة نظر مختلفة وإن كانت أصواتها خافتة تجادل أن للاقتصاد الخفي آثار إيجابية لا يجب التغافل عنها كزيادة عرض السلع ومعالجة مشكلة البطالة وتوليد دخول إضافية تزيد من القوة الشرائية والطلب الكلي الذي يؤدي بشكل غير مباشر إلى رفع معدلات النمو.

 وبحسب دراسة تحليلية بحثت اقتصاد الظل في ليبيا للفترة من 1986 الى2021 يوجد علاقة احصائية موجبة بين نمو الاقتصاد الخفي ونمو الاقتصاد الرسمي غير النفطي حيث قدرت الدراسة أنه لكل 100% نمو في الاقتصاد الخفي نما الاقتصاد الرسمي بنسبة 35%. كذلك من مميزات اقتصاد الظل الديناميكية والقدرة على تجنب البيروقراطية المعيقة للأنشطة الاقتصادية وتتيح فرص لمحدودي الدخل للمشاركة في أنشطة انتاجية توفر سلع بأسعار أقل. إضافة إلى ماسبق أظهرت دراسات امبيريقية أن جزء كبير من الدخول المتولدة عن أنشطة اقتصاد الظل تنفق مباشرة في الاقتصاد الرسمي قدرتها بعض الدراسات بأكثر من الثلثين، ما يساهم في القيمة المضافة للاقتصاد حيث تشير بعض التقديرات إلى أن ثلثي القيمة المضافة للاقتصاد الألماني والأسترالي لم تكن لتتحقق لولا الاقتصاد الخفي. 

الحلول المقترحة للحد من هذه الظاهرة

  توصلت دراسة بحثت العلاقة بين حجم اقتصاد الظل ودرجة الحرية الاقتصادية في أكثر من 141 دولة إلى أنه  كلما زادت سهولة وحرية التجارة الدولية كلما  كان الاستعداد للخروج من اقتصاد الظل والدخول في السوق الرسمي أكبر، كذلك أكدت الدراسة  وجود تشريعات متينة تحمي حقوق الملكية يتناسب عكسيا مع حجم وقوة اقتصاد الظل. وبالعموم فإن الحد من تدخل الدولة وحرية وسهولة الدخول إلى السوق تساهم في التخفيف من الآثار السلبية لهذه الظاهرة أو على الأقل توجهها نحو نتائج أكثر إيجابية بحسب كثير من الخبراء.

من السياسات المعمول بها لمجابهة تعاظم اقتصاد الظل وضع تشريعات تشجع محدودي الدخل على تأسيس أعمال كالإعفاء الضريبي لمستوى معين من الدخل، وتسهيل منصات القيد والتسجيل الإلكتروني، وتسهيل فتح حسابات بنكية ومنح قروض تشجيعية وغيرها.

لاشك أن ضعف أدوات الدفع الإلكتروني وسيطرة المدفوعات النقدية توفر بيئة مناسبة لانتشار الأنشطة الاقتصادية الخفية وبالتالي فإن تطوير البنية التحتية لشبكة الاتصالات و تسهيل منصات الدفع الالكتروني تساهم في تحجيم الاقتصاد الخفي. إلا أنه لوحظ مع انتشار بعض هذه المنصات في الآونة الأخيرة كنتيجة لأزمة السيولة مثل (ادفع لي، الوثبة) لوحظ ارتفاع أسعار المنتجات التي تدفع عن طريقها بشكل ملفت عن أسعارها العادية في حال دفعت نقدا. وكذلك ضعف الأمن الالكتروني أو السيبراني لهذه التطبيقات ما زعزع الثقة في هذه الأدوات. وعليه فإن هناك حاجة لبناء مشروع أمن سيبراني متين و اصدار وتفعيل تشريعات وضوابط رقابية تعيد الثقة فيها وتشجع استخدامها لضمان أداء هذه المنصات وظيفتها بشكل سليم.

الخلاصة

رغم كثرة الدراسات المتوفرة حول اقتصاد الظل أو الاقتصاد غير الرسمي بصفة عامة، إلا أن هذا الحال لا ينطبق على الحالة الليبية حيث تندر الدراسات حولها ولا تتوفر بيانات كافية تساهم في تقديرات موضوعية لحجم هذه الظاهرة وآثارها المختلفة سواء كانت إيجابية أو سلبية، ما يستدعي جهودا أكثر جدية من قبل المؤسسات العلمية و الحكومية على حد سواء للوصول إلى صورة أكثر وضوحا تكون مقدمة لصناعة سياسات وتشريعات متناسبة في إطار استراتيجية موحدة للاقتصاد الليبي.

وبصفة عامة فإن اقتصاد الظل في ليبيا ليس محدودا ويعود بروزه وتناميه إلى فقدان ثقة الأفراد في العدالة الاجتماعية وعدم الرضا على البنية التشريعية والإجراءات الإدارية والتفلت من القيود القانونية والتهرب من الاستحقاقات المالية، لهذا ينبغي الاهتمام به دراسة ومعالجة كإحدى السياسات لتحريك عجلة الاقتصادي الوطني وتطويره.