يبدو المشهد السياسي واقعا في شراك الجمود السياسي بشكل أكثر عمقا، منذ استقالة المبعوث الأممي “عبد الله باتيلي”، خصوصا وأن اختيار مجلس الأمن لمبعوث أممي جديد، ببرنامج سياسي متفق عليه من قبل المجتمع الدولي تبدو بعيدة المنال، خصوصا مع الانقسام الطارئ على المجتمع الدولي حول ليبيا.
تصريحات عقيلة صالح
أكد رئيس مجلس النواب عقيلة صالح أن المجلس على تواصل مع الأعلى للدولة، ويكاد يكون هناك اتفاق على آلية تشكيل الحكومة.
وأضاف “صالح” في حوار مع موقع صحيفة “صدى البلد” المصرية، أنه قد تم الاتفاق من حيث المبدأ على أن يحصل من يريد تولي الحكومة على تزكية 20 عضوا من الدولة، و10 أعضاء من النواب.
وأضاف “عقيلة” أن العملية الانتخابية جاهزة بكل تفاصيلها، وتحتاج فقط إلى تشكيل حكومة واحدة تكون مسؤولة أمام مجلس النواب؛ لأنه من غير المعقول إجراء الانتخابات في ظل وجود حكومتين، إحداهما في الشرق والأخرى في الغرب، مشددا على عدم تأخير إجرائها إلى حين تكليف مبعوث أممي جديد؛ لأن انتظاره مضيعة للوقت، وفق تعبيره.
ولعل هذه التصريحات هي السبب الرئيسي في إعادة نشاط مرشحي رئاسة الحكومة، وتواصلهم مع أعضاء النواب والدولة؛ بغية جمع التزكيات اللازمة للترشح.
مراقبون يرون أن تصريحات “عقيلة” تأتي في إطار استباق حراك القائمة بأعمال البعثة بالإنابة “ستيفاني خوري”، إلا أن مسلك “عقيلة صالح” ومجلس النواب منافي لهذه التصريحات، موقف عقيلة وإن أُخذ بشيء من التفاؤل باعتباره رمية حجر في بحيرة المشهد السياسي الراكد، إلا أن هذا التفاؤل يعكره إقرار مجلس النواب للميزانية بقيمة تسعين مليار دينار لحكومة “حماد”، ما يمكن أن يعتبر تعزيزا لحالة الانقسام السياسي.
موقف رئيس مجلس الدولة
وفي أول رد فعل من رئيس المجلس الأعلى للدولة “محمد تكالة” أشار إلى اجتماع مرتقب لإجراء مفاوضات مع مجلس النواب، وبذات تشكيلة لقاء القاهرة، متوقعا أن اللقاء سيسفر عن نتائج مبشرة حول خارطة للطريق، لافتا إلى أن الحوار السياسي يبقى دائماً بين مجلسي النواب، والأعلى للدولة الدولة، باعتبار أنهما من يتحمل المسؤولية، وأي محاولة لإقصائهما، أو إدخال أي طرف آخر، يعد إخلالا بالموقف السياسي.
يأتي موقف “محمد تكالة” قبل ثلاثة أشهر من انتخابات رئاسة المجلس الأعلى للدولة، والتي تبدو مبهمة المعالم حتى الآن، حيث أن التدافع داخل المجلس الأعلى و حكومة الوحدة الوطنية ، وتأثيرها على انتخابات المجلس؛ قد ينتج عنه مفاجأة قد تؤثر على المسار السياسي للبلاد، والعلاقة مع مجلس النواب، ومن المعلوم أن حكومة الوحدة كانت صاحبة الفضل الأكبر في فوز “محمد تكالة” برئاسة المجلس، وفي حال خسارة مرشح الحكومة لرئاسة المجلس، فإن فرص تشكيل حكومة موحدة مع مجلس النواب قد تبدو أكثر رجوحا، خاصة إذا تم الالتزام بالإجراءات القانونية التي نص عليها الاتفاق السياسي، وإنضاج حالة توافق حقيقية ودعم دولي كافي لمرور الحكومة، عندها قد تتحقق انفراجة في المشهد السياسي، الذي اتسم بالجمود لعدة سنوات.
وبالرغم من ذلك فإن تفاعل “تكالة” مع “عقيلة صالح” على الصعيد السياسي لن يكون ذا أثر يذكر، خصوصا وأن تموضعه السياسي واضح في الانحياز للحكومة وتنسيق المواقف معها؛ ما يعني أن العلاقة مع النواب لن تكون بتلك الفاعلية في ظل استمرار حكومة الوحدة الوطنية، التي يصفها “عقيلة صالح” بالحكومة فاقدة الشرعية.
المسار السياسي المرتقب
مع ما يمكن أن نصفه بالحصار المالي الجاد الذي يفرضه محافظ مصرف ليبيا المركزي على حكومة الوحدة الوطنية، بعدم صرف أي بند عدا المرتبات للعاملين في القطاع العام؛ ما يضع الحكومة في موقف غاية في الصعوبة، ويجعل مستقبل استمرارها عرضة للتكهن، ويفتح باب تساؤلات واسعة عن قدرة الحكومة على تمويل مشاريعها، التي أطلقتها عند إعلانها لخطة “عودة الحياة”، كما أنه يطرح سؤالا آخر، ما هو جدوى استمرار الحكومة من عدمه؟ خصوصا وأن العمل الحكومي لا يقتصر على صرف مرتبات العاملين فحسب، بل يتعداه إلى أبعد من ذلك، هذا إذا أخذنا بالاعتبار الظروف السياسية في العاصمة، والمجاميع المسلحة الطامحة لتقوية نفوذها؛ عبر استحداث الأجهزة والأجسام بمصروفات باهضة أرهقت الميزانية العامة، وهو ما قد جرت به العادة في ولاية حكومة الوحدة الوطنية، أي منذ ثلاثة أعوام تقريبا.
وبطرح سؤال مستقبل الحكومة، تبدو أمامنا ثلاثة سيناريوهات: الأول: تكيف الحكومة مع حفتر وأبنائه، وضمان استمرارها عبر تقاسم السلطة، الثاني: توافق مجلس الدولة والنواب على توحيد السلطة التنفيذية، وإذا تحقق ذلك، قد نشهد تغييرا لحكومة الوحدة، خصوصا في ظل ما تمر به من ضعف السيناريو الثالث : وهو الأقرب ، تشكيل حكومة جديدة بإشراف البعثة الأممية ، عبر آلية مشابهة لملتقى الحوار السياسي الليبي، خصوصا وأن الاهتمام الأمريكي بالمشهد السياسي الليبي المتعثر بات واضحا، عبّر عنه استقدام “ستيفاني خوري” للبعثة واستقالة “باتيلي” بعدها بأيام.
النشاط الأمريكي؟
بدا النشاط الأمريكي في الأسبوعين الماضيين أكثر حماسة، إذا ما قارناه بالأشهر القليلة الماضية، حيث قام المبعوث الأمريكي الخاص “ريتشارد نورلاند” رفقة القائم بأعمال السفارة الأمريكية في ليبيا، بجولة واسعة التقى خلالها بالأطراف السياسية الفاعلة، وأصحاب المناصب الرسمية، ورؤساء الهيئات والمؤسسات السيادية، مؤكدا رغبة الولايات المتحدة بتفعيل العملية السياسية الليبية، وكسر حالة الجمود التي تعاني منها.
يتبين من التصريحات واللقاءات المباشرة أن رؤية “نورلاند” لا تعتمد على إجراء الانتخابات، وإنما تقوم على محاولة مواءمة المشهد عبر إبرام تسويات سياسية بين الأطراف الرئيسية؛ كحفتر والتشكيلات المسلحة في المنطقة الغربية، ومجلس النواب والمجلس الأعلى للدولة؛ وذلك لتشكيل مشهد حكومي قابل للاستدامة ، من جانب آخر هناك قلق أمريكي متنامي تجاه الوجود الروسي الصريح في ليبيا، والذي يشكل حفتر قاعدته الرئيسية ، غير أن الموقف الأمريكي في ذات الوقت ، يبدو شديد التناقض فيما يتعلق بعلاقة حفتر بالروس إذ أن الضغوطات لا تزال أقل من أن تدفع حفتر للتخلي عن علاقته بالقوات الروسية الموجودة في ليبيا، كما أن العلاقة الأمريكية بحفتر، باعتباره المشروع القادر على فرض سطوته على مناطق واسعة من البلاد، لا تزال تبدو في أفضل مستوياتها، خصوصا في ظل المقاربة الأمنية التي تتبناها الولايات المتحدة تجاه الملف الليبي.
كما أن قضية الانتخابات تبدو مهددا للمصالح الأمريكية في الظروف الحالية، خصوصا مع النشاط اللافت لتيار النظام السابق في الحشد والتأطير لسيف الإسلام، الذي تتبناه روسيا بشكل واضح؛ وهو ما يشكل هاجسا وقلقا أمريكيا؛ خشية من تغلغل تيار النظام السابق في مستويات السلطة السياسية، وصناعة القرار؛ الأمر الذي سيجعل من الوجود الروسي أكثر رسوخا، نتيجة لتمدده في المشهد السياسي، وتحقيق المشروعية القانونية.
وبحسب ما يظهر، فإن الأولوية الأمريكية في المرحلة القادمة ستقوم على لملمة الأطراف السياسية الرئيسية؛ بغية تحقيق تسوية سياسية تتمثل في سلطة تنفيذية موحدة، ولعل أقرب الآليات لذلك ستكون عبر الوساطة الأممية بقيادة “ستيفاني خوري” والتي ستلعب دورا ضاغطا أكثر جدية على مجلس النواب والأعلى للدولة،
كما أن فكرة إنشاء ملتقى حوار سياسي لا تزال فكرة قائمة ومرجحة، في حال تعذر تجاوب مجلسا الدولة والنواب لدفع العملية السياسية إلى الأمام، وفي حال تعذر إعادة تشكيل حكومة الدبيبة بما يضمن رضا وتمثيل الأطراف الرئيسية (حفتر / المنطقة الغربية) وهو احتمال يبدو مرجوحا حتى اللحظة .