قدم بيان مصرف ليبيا المركزي لشهر يونيو 2024 نظرة مفصلة على الإيرادات والنفقات خلال الفترة من 1 يناير حتى 30 يونيو 2024. ويناقش هذا التقرير أبرزالمسائل المالية والنقدية وأثرها على الاقتصاد الليبي، ذلك أن بيان المركزي أظهر أرقاما أثارت جدلا لم يقف مضمونه عندى مدى دقة الأرقام التي أوردها المركزي بل تعداها إلى الحديث عن دوافع سياسية اعتبرها البعض السبب وراء اختلاف بيانات المصرف ما بين كشف الإيرادات والنفقات والتشرة الاقتصادية.
قراءة تحليلية لبند الإيرادات
بحسب بيان المركزي الليبي فقد بلغ إجمالي الإيرادات 45 مليار دينار ليبي، شكلت عوائد مبيعات النفط الحصة الأكبر منها بنسبة تصل إلى حوالي 82%، وساهمت الإتاوات النفطية بشكل كبير في الإيرادات العامة حيث تجاوزت7 مليار دينار ليبي أي حوالي 16% ما يجعل القطاع النفطي يمثل العمود الفقري لهذه الإيرادات بأكثر من 98% من الإيرادات الإجمالية في استمرار لسيطرة القطاع النفطي على الاقتصاد وتكريس حضور القطاع العام مقابل تهميش القطاع الخاص دون وجود لمحاولات جادة لإصلاح الخلل في هيكل الاقتصاد الليبي. وتمثل الإتاوات الرسوم التي تفرضها الدولة على شركات النفط الأجنبية والمحلية مقابل السماح لها باستخراج النفط، وهي نسبة من متوسط السعر السائد في السوق الحرة، كما نص قانون البترول رقم 25 لسنة 1955، إلا أنه لا يوجد افصاح كافي في البيانات السابقة يبين طبيعة هذا البند وطبيعة التأخير وما إذا وجدت تسويات مع الشركات من عدمها.
شكل 1: نسب بنود الإيرادات من الإجمالي:

بينما شكلت باقي البنود فقط 2% من الإيرادات، حيث بلغت إيرادات الضرائب 122 مليون دينار بنسبة قليلة لا تتجاوز 0.3%، ويشير ذلك إلى ضعف القاعدة الضريبية وخلل في جمع الضرائب. وبلغت الإيرادات الجمركية 123 مليون دينار ونسبة لا تختلف عن الضرائب من إجمالي الإيرادات، وهو مؤشر على وجود مشكلة في الاقتصاد وخلل في إدارة الجمارك. ومثلت كل من إيرادات الاتصالات 15 مليون وإيرادات بيع المحروقات بالسوق المحلي 32 مليون مجتمعة أي حوالي 0.1%، في حين شكلت إيرادات واردة من مراقبات الخدمات المالية 1.5% من إجمالي الإيرادات.
وعند المقارنة بالشهر الفائت فقد حققت الإيرادات زيادة ضئيلة بمقدار 1.3 مليار دينار ليبي، بينما زادت في شهر مايو بمقدار 11.7 مليار دينار عن الشهر الذي سبقه، دون تقديم توضيح لهذا التغير الهائل، فالفارق في الزيادة يبن الشهرين كبير بشكل لافت للنظر، فقد بلغت مبيعات النفط في شهر يونيو حوالي 200 مليون دينار فقط بحسب الأرقام الواردة، بينما انخفضت إجمالي الإيرادات مقارنة بإجمالي الإيرادات لنفس الفترة من العام السابق بمقدار 4.5 مليار أي ما يعادل 10%.
أما الضرائب فعند مقارنتها بنفس الفترة من العام السابق فقد انخفضت عن القيمة السابقة المتدنية أصلا بحوالي 60% ما يؤشر على استمرار حالة الضعف والهشاشة للقطاعات الاقتصادية غير النفطية، ويدلل وجود اقتصاد غير الرسمي واسع وسهولة التهرب الضريبي. أيضا انخفضت إيرادات بيع المحروقات بالسوق المحلي بشكل حاد إذا ما قورنت بنفس الفترة من العام السابق حيث شهدت تراجعا بنسبة تجاوزت 60%. هذا التدني الذي أكده بيان المصرف المركزي في ملاحظاته الختامية يتطلب تدقيقا خاصا لمعرفة أسبابه خصوصا في ظل الحديث عن مشاكل تهريب الوقود، وبلغت قيمة الرسوم المفروضة على بيع العملات الأجنبية 9.5 مليار دينار، اكتفي البيان بذكرها في الملاحظات الختامية.
شكل 2: انخفاض إجمالي الإيرادات مقارنة مع الأشهر السابقة ومع نفس الفترة لسنة 2023

قراءة تحليلية لبند النفقات
بلغت المصروفات الإجمالية 43.7 مليار دينار ليبي تشكل المرتبات الحصة الأكبر من الإنفاق الحكومي حيث بلغت 25.7 مليار دينار ليبي أي حوالي 58% على الرغم من أن مرتبات يونيو 2024 لم تضمن في هذا البيان. هذا التضخم في قيمة المرتبات يعكس اعتماد الدولة الكبير على القطاع العام في توفير الوظائف، وهو ما يشير إلى مشاكل وتحديات في كفاءة وإنتاجية هذا القطاع، في حين بلغت تكلفة الدعم 7.8 مليار دينار ليبي مشكلة حوالي 18% من المصروفات، وكما هو ظاهر فإن معظم النفقات تذهب للمرتبات والدعم، مما يراكم ضغوطاً كبيرة على الميزانية في ظل غياب واضح للاستثمار في التنمية والبنية التحتية. هذا وتجدر الإشارة هنا إلى أن خصم فاتورة المحروقات من مبيعات النفط من قبل المؤسسة الوطنية للنفط مباشرة منذ نوفمبر 2021 مازال مستمرا ما يمثل تحديا خطيرا في الإفصاح عن الحجم الحقيقي لتكلفة الدعم وأثره وتداعياته على الميزانية العامة، ويعتبر الدعم جزءاً مهماً من السياسة الاقتصادية لضمان استقرار الأسعار وحماية الفئات الضعيفة، لكنه قد يؤدي إلى ضغوط مالية إذا لم يتم إدارته بشكل شفاف واستمر بشكله الحالي دون اصلاح.
الميزانية الاستثنائية المقررة خلال العام 2023 لصالح المؤسسة الوطنية للنفط و الشركة العامة للكهرباء بلغت 4.7 و 2.5 مليار دينار على التوالي ما يشكل 16% من إجمالي الإنفاق، وبلغ بند المصروفات التسييرية 3 مليار دينار ما يعادل حوالي 7% من إجمالي المصروفات.
بإجمالي نفقات قدره 43.7 مليار دينار ليبي، انخفضت المصروفات عن نفس الفترة من العام السابق بحوالي 1.3 مليار دينار، بينما زاد الإنفاق عن شهر مايو الماضي بمقدار 10.9 مليار دينار ليبي ما يعادل زيادة 33%، المرتبات زادت 26%، الدعم زاد 77%. وبينما لم يحدث تغيير يذكر في بند الميزانية الاستثنائية، فإن النفقات التسييرية زادت ما يقارب الضعف عن شهر مايو الفائت، هذا التراجع في الإيرادات في مقابل الزيادة في النفقات مؤشر مقلق يحتاج لمزيد من الإفصاح بالإضافة إلى وقفة جادة من قبل صناع القرار لرسم سياسة مستدامة للإنفاق.
شكل 3: مقارنة إجمالي النفقات مع الأشهر السابقة ومع نفس الفترة لسنة 2023

توزيع الإنفاق حسب القطاعات
نفقات الأجسام السيادية العليا – مجلس النواب والمجلس الأعلى والرئاسي ومجلس الوزراء والجهات التابعة لها – بلغت حوالي 1.8 مليار دينار ليبي توزعت كالتالي: نفقات مجلس النواب والجهات التابعة له بلغت 496 مليون دينار ليبي، و المجلس الأعلى للدولة 21 مليون دينار ليبي، و المجلس الرئاسي 230 مليون دينار ليبي، بينما بلغت نفقات مجلس الوزراء حوالي المليار دينار ليبي، وإذا ما قورنت بنفس الفترة من العام السابق فلن نلاحظ تغيير يستحق الذكر، من جانب آخر وزارة المالية تستحوذ على الحصة الأكبر من النفقات وكانت مرتبات مراقبة الخدمات المالية بنغازي هي الأعلى قيمة من ضمن مرتبات وزارة المالية حوالي 1.8 مليار دينار تليها مرتبات مراقبة الخدمات المالية طرابلس بحوالي مليار دينار ، ورغم استمرار تردي البنية التحتية للصحة إلا أن نفقات وزارة الصحة ظلت في حدود 2.8 مليار دينار ما لا يزيد عن 6.5% من مجمل الإنفاق، منها حوالي أكثر من 40% مرتبات و17% نفقات تسييريه.
فائض الميزانية في مقابل عجز ميزان المدفوعات
حققت الميزانية فائضا متواضعا بحوالي 1.3 مليار دينار ليبي ما يعادل 3%، في مقابل عجز في المدفوعات بالدولار اقترب من 9 مليا دولار حسب ما أورده المركزي في بيانه. وإذا أخذنا في الاعتبار أن مرتبات يونيو 2024 لم تضمن في هذا البيان فإن الوضع قد يختلف، فبالنظر للأشهر السابقة يمكنن تقدير مرتبات يونيو بحوالي 5 مليار دينار، وعند إضافة هذا الرقم لبند المرتبات فإن هامش الفائض المتواضع الذي تحقق في نهاية الربع الثاني من العام سيتحول إلى عجز بأكثر من 3 مليارات دينار ما يعادل 7%، هذا الوضع يعكس مع ارتفاع نسبة النفقات الاستهلاكية وانخفاض النفقات الاستثمارية والتي كشف عن نفسها في ارتفاع العجز بادولار.
بيان الإيردادات والنفقات يكشف عن تحديات وصعوبة في تحقيق نمو اقتصادي مستدام، ذلك أنه عند احتساب الفارق التراكمي بين الإيرادات والنفقات العامة منذ 2012 والذي حقق حتى نهاية 2023 عجزا متراكما في الميزانية بحوالي 34 مليار دينار ليبي، فإن الوضع أسوأ مما يبدو عليه، كذلك بلغت استخدامات والتزامات النقد الأجنبي حتى نهاية يونيو 2024 مبلغ 18 مليار دولار بزيادة حوالي 4 مليار عن الشهر الفائت منها حوالي 5.5 مليار دولار اعتمادات مستندية وحوالي 8.5 مليار دولار استخدامات والتزامات الدولة في حين بلغ إجمالي ما تم توريده إلى مصرف ليبيا المركزي خلال الفترة مبلغ 9.1 مليار دولار، الفارق كبير بين إيرادات وبين استخدامات والتزامات النقد الأجنبي ما يزيد الضغوط على احتياطيات المصرف المركزي وعلى الاستدامة المالية للدولة.
خلاصة
لا يمكن التسليم بالفرضية التي تحدثت عنها بعض المواقع الإعلامية من أن ليبيا معرضة للإفلاس وأن وضعها المالي صعب جدا، فالصورة ليست بتلك القتامة، لكن هذا لا يعني أن الوضع المالي سليم والاقتصاد الليبي بخير، ويظهر ذلك الفشل في تحقيق التوازن بين الإيرادات والمصروفات، وتحسين كفاءة الإنفاق الحكومي، وتنويع مصادر الدخل، ويعود هذا الفشل إلى توجهات قديمة أثرت سلبا في تركيبة الاقتصاد وشكل الميزانية، وأيضا عدم القدرة على معالجة هذا الوضع من قبل الحكومات المتعاقبة، وانجرارها وراء خيارات وسياسات خاطئة أو بسبب تراكم الضغوط التي نتجت عن الانقسام والصراع.
هناك حاجة ملحة لتعزيز الاستقرار المالي وتحقيق التنمية المستدامة من خلال إعادة النظر في شكل الميزانية والإدارة الفعالة للموارد النفطية والأخرى السيادية مثل الضرائب والجمارك، ومعالجة الخلل في بنود الإنفاق الرئيسية من مرتبات ودعم، وضرورة إصلاح القطاع العام لزيادة كفاءته وإنتاجيته، و الاستثمار في البنية التحتية والمشروعات التنموية – الغائب عن بنود الإنفاق في هذا البيان – وغيرها من السياسات لتعزيز النمو الاقتصادي المستدام وتوفير فرص العمل، كما يجب تحقيق كفاءة أفضل في الإنفاق من خلال مجابهة الفساد.



