Skip to main content

قطاع الصحة في ليبيا من أكثر القطاعات ترديا، وهو من أكثرها حصة في الإنفاق العام، وأكثرها فسادا. ويعاني قطاع الصحة مشكلات مركبة فهو مثقل بالكادر غير المؤهل وسوء الإدارة وعدم كفاية المخصصات، والنقص الحاد في التجهيزات والأدوية.

بات الفساد في قطاع الصحة في ليبيا ظاهرا، وتضاعف عجز المرافق الصحية في ليبيا بسبب التدهور الأمني والصراعات المسلحة، التي عطلت في فترات سابقة  معظم الخدمات التي تقدمها هذه المرافق التي أغلق العديد منها، كما أدت المشاكل الأمنية إلى خروج معظم العمالة الطبية الأجنبية وعودتهم لبلدانهم، خاصة الأطباء والممرضين والفنيين منهم، وتوقفت بعض المرافق الصحية جزئياً عن العمل. 

وشهدت الفترات بعد الاتفاق السياسي في العام 2016م اتجاها حكوميا لمعالجة مشاكل قطاع الصحة، ورصدت خلال الفترة ما بين 2016 – 2022م مبالغ كبيرة للقطاع، إلا إن نتائجه لم تكن في مستوى ما أنفق من أموال، وعرف قطاع الصحة خلال هذه الفترة فسادا كبيرا كشفت عنه تقارير ديوان المحاسبة.

وضع قطاع الصحة في ليبيا

يوجد في ليبيا نحو 120 مستشفى عاما وعيادة طبية، تفتقر كلها إلى التجهيزات والصيانة والمستلزمات الطبية المفترض توافرها، وقد احتاجت هذه المرافق في عام 2015 إلى 219 مليون دينار ليبي لتجهيزها تجهيزا مناسبا، ولكن مصرف ليبيا المركزي لم يقدم سوى 147 مليون دينار، وقد بلغ إجمالي ما ينفق على القطاع الصحي نحو 6 مليار دينار سنوياً، يذهب الجزء الأهم من هذه المليارات للمرتبات، والجزء المهم الآخر من هذا الرقم ينفق على صيانة المباني والمعدات الطبية، وتنفق الدولة من خزينتها مليار دينار سنوياً للعلاج في الخارج، بينما بلغ ما يصرفه الليبيون من جيوبهم للعلاج في دول الجوار فقط نحو 5 مليار دولار سنويا، فضلاً عن تعرض كثير منهم لعمليات احتيال ممنهجة، في غياب رقابة المكاتب الصحية بالخارج، بل وفساد بعضها مقابل عمولات مالية.

وجدير بالذكر أن نسبة ما يخصص من وزارة الصحة من الميزانية العامة تصل إلى 10.4%  وذلك في العام 2018م، ويبلغ معدل الإنفاق على الصحة من الناتج المحلي الإجمالي حوالي 4% وتتكفل الدولة بحوالي %21 من الإنفاق الإجمالي على الصحة، وذلك وفقا للأرقام الرسمية من وزارة الصحة، وتعتبر هذه الأرقام جيدة مقارنة بمستوي الإنفاق الصحي بباقي الدول العربية، لكن مدى جودة ومردود الإنفاق الصحي فى ليبيا يظل محل جدل بسبب سوء الإدارة والفساد.

أبرز المؤشرات المالية لقطاع الصحة 2018-2020م

المؤشرالقيمة 2018القيمة 2020
نسبة مخصصات قطاع الصحة من الميزانية العامة10.4%%8.3
معدل الإنفاق على الصحة من الناتج المحلي الاجمالي4%%4
حصة الفرد من إجمالي الإنفاق على الصحة بالدولار612960
نسبة مساهمة الدولة من إجمالي الإنفاق على الصحة73.593%
حصة الفرد من ميزانية وزارة الصحة بالدولار485892
نسبة الإنفاق من الجيب على الصحة26.5%%7

          المصدر: وزارة الصحة، وتقرير المؤشرات الصحية الوطنية العام 2020م

أما بالنسبة للخدمات الصحية التي يحتاجها المواطنون فيوجد أكثر من مليون ليبي يحتاجون لخدمات صحية أساسية مثل أدوية الأنسولين واللقاحات وغسيل الكلى، يقابل هذا إغلاق نحو ثلثي المستشفيات الليبية كونها في وضع لا يؤهلها لتقديم خدماتها على أكمل وجه، بسبب مغادرة الأطقم الطبية الأجنبية التي تمثل 70% من العناصر الطبية والتمريض؛ وتراجع المخصصات المالية لسبب تراجع الإيرادات العامة خاصة فترة إغلاق حقول وموانئ النفط.

الفروق في مستوى الخدمات الصحية في المناطق هو مظهر من مظاهر سوء الإدارة، إذ تواجه مناطق عدة في الجنوب نقصا كبيرا في الخدمات الطبية وما تزال الجهود لتصحيح هذا الوضع المختل دون المستوى.

أبرز المشكلات والتحديات

الانقسام كان من بين جملة الأسباب التي أسهمت في تدهور قطاع الصحة، وقد لحق الانقسام إغلاق النفط، الأمر الذي انعكس سلبا على ميزانية القطاع، وحتى بعد الدمج بين الوزارتين إثر تشكيل حكومة الوحدة الوطنية بالعام 2021، ما يزال القطاع يعاني مشكلات ويواجه تحديات نجملها فيما يلي:

  • تشظي مؤسسات القطاع.
  • سوء الإدارة وغياب الحوكمة.
  • غياب المسؤولية وضعف الرقابة.
  • النقص الحاد في الأطقم المؤهلة.
  • استمرار حالة التردي في الخدمات الطبية.
  • تعطل شبكة الرعاية الأولية (PHC Network).
  • عدم كفاية المخصصات المالية وتفشي الفساد.

وبالرجوع إلى موقع الوزارة وأدبياتها المنشورة ثبت أن الوزارة تفتقر إلى السياسات الخاصة بالقطاع، وهذا ما أكدته تقييمات بعض المصادر الدولية المتخصصة من أنه لا توجد سياسة صحية في ليبيا، وورد بتقرير الأهداف الإنمائية للألفية لعام 2009 لليبيا أن البلاد تسير على الطريق الصحيح لتحقيق الأهداف الإنمائية للألفية بحلول عام 2015، إلا إن التخبط والارتباك بالقطاع يشير إلى انحراف واضح عن السياسات التي اعتمدتها منظمة الصحة العالمية. كما يهدد عودة الانقسام مساعي معالجة المختنقات في القطاع وذلك بعد شروع الحكومة الليبية بقيادة فتحي باشاغا في إدارة الشؤون العامة في مناطق الشرق والجنوب، مع تضارب وخلافات حول شرعيتها وسلطتها في مواجهة سلطة حكومة الوحدة الوطنية في بعض المدن في تلك المناطق.

تضخم الكادر البشري بالقطاع يشكل ظاهرة، فقد تجاوز إجمالي القوى العاملة في القطاع معايير منظمة الصحة العالمية، وأهداف التنمية المستدامة، إذا اقترب الرقم من 300 ألف عنصر. وتفتقر معظم الكوادر الطبية، خاصة المساعدة، إلى المهارات اللازمة للقيام بواجبها على أكمل وجه، واعتبرت تقارير منظمة الصحة العالمية ضخامة كادر قطاع الصحة في ليبيا من أكثر التحديات التي تواجه القطاع.

خطة إنعاش واستراتيجية تطوير

قطاع الصحة يحتاج إلى جهد محلي مدعوم دوليا من قبل منظمات متخصصة في المجال الصحي لأجل وقف حالة التدهور وتمكين القطاع من مجابهة الاحتياجات الرئيسية لما يزيد عن 1.3 مليون مواطن يطلب الخدمات الصحية والرعاية الطبية. يعقبها تبني إستراتيجية تستهدف الارتقاء بالقطاع ليكون في مستوى متقدم فلا يلجأ الليبيون إلى السفر للخارج طلبا للتداوي والعلاج.

الخطة ينبغي أن تمضي وفق مسارات متوازية أولها تبني نظام صحي متماسك ومضبوط وفعال يحقق سرعة توفير الخدمات الطبية في كافة مناطق البلاد ويستجيب لكل التطورات على مستوى الصحة العامة، وثانيها إعادة تأهيل المستشفيات والعيادات تأهيلا يعزز من إمكانياتها لتقديم العلاج والدواء للمرضى يغني عن الالتجاء للخارج، وثالثها تطوير الكادر الطبي والطبي المساعد من خلال استقدام الطواقم الليبية التي اضطرتها الظروف الصعبة في البلاد إلى البحث عن مصدر رزقها وفرص تطورها في الخارج، واستكمال النقص من خلال استجلاب الاطباء والمساعدين الأجانب.

الخطة ينبغي أن تهتم أيضا  بنظام توفير وإمداد الأجهزة والمعدات والدواء الذي يشكل أحد التحديات أمام قطاع الصحة ويمثل مصدرا كبيرا للفساد، وهذا يتطلب عناصر وطنية كفوءة تشرف عليها ورقابة داخلية بتفعيل إدارة التفتيش والمتابعة ومكاتب التفتيش في كافة المناطق والمرافق الطبية، وخارجية صارمة تنفذها الجهات الرقابية العامة  في البلاد.

رؤية وزارة الصحة العام 2023م

أطلقت وزارة الصحة بحكومة الوحدة والوطنية خلال شهر مارس الماضي  رؤيتها لتطوير الوزارة خلال الخمس سنوات القادمة، عنوانها: “5 سنوات رؤية لمستقبل صحي”، وتركز خطة الوزارة على تحسين جودة الخدمات الصحية من خلال تبني إستراتيجية للرعاية الصحية الأولية، والاهتمام بالعنصر البشري وإطلاق مشروع إعداد قادة التغيير في القطاع الصحي عبر تمكين الشباب، والبرامج الوطنية، وإطلاق مشروع التحول الرقمي لضمان انسيابية العمل داخل القطاع.

التحدي أمام هذا الطموح هو طبيعة الأوضاع السياسية والأمنية في ظل التدافع الراهن والاتجاه إلى تغيير الحكومة في ظل التطور في المسار السياسي وإجراء الانتخابات نهاية العام حسب كثير من التوقعات، هذا بالإضافة إلى توفير التمويل اللازم لخطة طموحة تتطلب تراكما ماليا كبيرا.

خلاصة

تبقى مشاكل القطاع الصحي في ليبيا بتشعباتها وتأثيراتها المباشرة على حياة المواطن كأبرز مظاهر المشاكل التي تعانيها ليبيا جراء أزماتها المتلاحقة، وبهذا فإن المخرج سيبقى رهين التسوية الشاملة، لأن إيجاد الحل في قطاع ما بمعزل عن غيره سيبقى محاولة عبثية ترتب تكاليف باهظة ولا تأتي بالحلول الحقيقية.

إن حالة عدم الاستقرار الحكومي جراء النزاع والانقسام يقضي على الآمال في تبني خطط تنهض بقطاع الصحة وتخرجه من حالة التردي التي يعانيها، وستكون كافة الجهود المتعلقة بإستراتيجيات وخطط تطوير القطاع هدرا للمال العام وتضييعا للجهود والوقت، ذلك أن التجارب السابقة أثبتت أن مجرد تغيير الحكومة في البلاد ينتهي إلى توقف مساعيها في التنمية والتطوير إذا وجدت أو وضعت وفق أسس صحيحة، فكيف إذا كان المناخ ملبدا بغيوم النزاع.

لهذا فإن أي إستراتيجية أو خطة تنمية وتطوير للقطاع الصحي ينبغي أن تتأسس على أرضية صلبة قوامها التوافق وإنهاء الصراع وتبني برنامجا تنمويا شاملا يتضمن أهدافا كلية وسياسات عامة تنبثق عنها الإستراتيجيات والخطط القطاعية منها الخاصة بقطاع الصحة.

في المقابل، فإن تاخير التخطيط والاستراتيجيات لأسباب سياسية وأمنية لا يعني عدم انسابية الخدمات الطبية الأساسية، عليه ينبغي أن تتركز الجهود في المدى القصير على معالجة المختنقات الرئيسية التي تتعلق بالعلاج الأساسي والدواء وكل ما يتعلق بهما من احتياجات ضرورية، خاصة وأن هذه المرحلة تشهد وفرة في الإيرادات وقدرة على توفير احتياجات القطاع، وإمكانية للتضييق على قنوات الفساد.