Skip to main content

لعل أول ما يتبادر إلى الذهن عند الحديث عن إعادة الإعمار، هو التنمية العمرانية وإعادة بناء ما تهدم من البنى التحتية نتيجة الصراع المسلح، وبلا شك فإن التنمية العمرانية عملية محورية في عملية إعادة الإعمار، إلا أن مفهوم إعادة الإعمار لمرحلة ما بعد النزاعات هو مفهوم أكثر شمولا من ذلك، فبحسب موسوعة برينستون نسيس ” تُفهم إعادة الإعمار على نطاق واسع في مرحلة ما بعد الصراع على أنها عملية معقدة وشاملة ومتعددة الأبعاد، تشمل: الجهود الرامية إلى تحسين الظروف الأمنية (استعادة القانون والنظام)، والسياسية (الحكم الرشيد)، والاقتصادية (إعادة التأهيل والتنمية)، والاجتماعية (العدالة والمصالحة) في وقت متزامن.” وتأتي التنمية العمرانية واستعادة البنية التحتية والمرافق المادية، وإعادة إنشاء الخدمات الاجتماعية من ضمن البعد الاقتصادي لإعادة الإعمار في مرحلة ما بعد الصراع، المذكورة في التعريف السابق، إلى جانب تهيئة الظروف المناسبة لتنمية القطاع الخاص، وتنفيذ الإصلاحات الهيكلية الأساسية؛ لتحقيق استقرار الاقتصاد الكلي، وتعزيز النمو المستدام. وعليه فإن الجهود المبذولة لتحقيق المصالحة بين الفرقاء والمجموعات المختلفة، وإعادة بناء مؤسسات الدولة، وإنشاء مؤسسات جديدة حيثما كان ذلك ضروريا – على أن تحظى هذه المؤسسات بدعم شعبي وتوافق اجتماعي عام – تعتبر أولى الخطوات في تحقيق عملية إعادة إعمار شاملة وحقيقية، تحقق أهداف التنمية المستدامة، وتمثل إطارا للسلم الاجتماعي والسياسي وللرفاه الاقتصادي، وطالما أن مؤسسات الدولة السيادية لا زالت تعاني الانقسام، ولا يوجد استعداد للتوافق والتعاون، فإن فرص عملية إعادة الإعمار لا تبدو مبشرة؛ الباحث علي الخوري بعد أن عرض التكلفة الاقتصادية لثورات الربيع العربي، اقترح سبعة محاور أساسية يجب مراعاتها عند صياغة رؤية استراتيجية متكاملة لإعادة الإعمار، وهي: الأمن والاستقرار، توفير الأمن الغذائي، تأمين الاحتياجات المائية، تأمين الاحتياجات البيئية والصحية، تأمين احتياجات سوق العمل، وتوفير فرص العمل، تأمين الحقوق الإنسانية والمجتمعية، تحقيق سعادة ورفاهية المجتمع.

وتأسيسا على النقاش السابق، فإن الحاصل في ليبيا اليوم لا يمكن اعتباره مشروعا شاملا ومتكاملا لإعادة الإعمار، وإنما يمكن تناوله كمقاربة ومحاولة أولية لإعادة بناء البنية التحتية المترهلة أصلا، منذ عهد النظام السابق في أحسن الأحوال، وفي ظل جمود العملية السياسية، وانقسام المؤسسات السيادية، قد نجد من المبرر والمفهوم إذا اعتبرها البعض حلقة من حلقات الفساد والنهب المستشري لمجموعات المصالح الضيقة المتنفذة في إدارات الدولة.

سنحاول رصد هذه المقاربة رغم شح البيانات والمعلومات، في محاولة أولية لرسم صورة عامة مبدئية لمسار عمليات التنمية والإعمار، قد يساهم في إثارة نقاش فعال ومثمر حول الموضوع؛ ما يفتح الباب لمزيد من البحث والدراسة، ويساهم في إشراك الرأي العام في هذا المسار المهم والحيوي لمستقبل البلاد.

         شكل 1: التكلفة الاقتصادية لثورات الربيع العربي

المصدر: المنتدى الاستراتيجي العربي،2017 نقلا عن كتاب إعادة الإعمار بوابة لتفعيل التكامل الاقتصادي العربي والعمل المشترك، علي محمد الخوري.

خطة عودة الحياة:

 رصدت وزارة التخطيط بحكومة الوحدة الوطنية ما خصص لباب التنمية من بند الإنفاق العام لتنفيذ خطة تنموية، أطلقت عليها اسم خطة (عودة الحياة). بلغت قيمة باب التنمية لسنة 2023 حوالي 12 مليار دينار ليبي، استخدمت لتنفيذ 2192 مشروعا حسب لوحة المعلومات الإلكترونية لبرامج ومشروعات التنمية للعام 2023، والمنشورة على موقع وزارة التخطيط الإلكتروني.  توزعت هذه المشروعات مناطقيا على النحو التالي: ما يتجاوز 2.8 مليار دينار ليبي خصصت لتنفيذ مشروعات في المنطقة الغربية، بواقع 818 مشروعا، وبمعدل 24% من إجمالي الميزانية، بينما حظيت المنطقة الشرقية بحوالي 2.4 مليار دينار ليبي، خصصت لتنفيذ 330 مشروعا بمعدل 20%. وكان من نصيب المنطقة الجنوبية 143 مشروعا كلفت الميزانية 1.3 مليار دينار ليبي بمعدل 11%، وحوالي 900 مليون دينار ليبي مولت 305 مشاريع في المنطقة الوسطى بمعدل 8% من إجمالي الميزانية.المشروعات الاستراتيجية والتي عرفتها وزارة التخطيط في موقعها بالمشاريع التي فاقت قيمتها 100 مليون دينار ليبي وتوزعت على مناطق مختلفة، شكلت 30% من مجمل الميزانية بقيمة بلغت 3.8 مليار دينار مولت 400 مشروع، والمتبقي من الميزانية حوالي 7% خصصت للطلبة الموفدين ولتعمير المدارس ومراكز البعثات الدبلوماسية في الخارج، وعند النظر إلى توزيع المشروعات على الجهات المنفذة، فإننا نلاحظ أن الحصة الأكبر كانت من نصيب جهاز تنفيذ مشروعات الإسكان والمرافق بحوالي ملياري دينار، يليه جهاز تنفيذ مشروعات المواصلات بحوالي 1.5 مليار، وجهاز تطوير المراكز الإدارية 1.3 مليار، وديوان الحكم المحلي بقيمة 1.1 مليار دينار، بينما توزعت القيمة المتبقية على باقي القطاعات بقيم تراوحت بين 5 ملايين وأقل من مليار دينار.

            شكل 2: التوزيع الجغرافي لميزانية التنمية لسنة 2023

                  المصدر: الموقع الإلكتروني لوزارة التخطيط

في سنة 2022 رصدت قيمة 17 مليار دينار ليبي للتنمية، كانت نسب المناطق المختلفة منها متقاربة إلا أن الجدير بالملاحظة أن حصة المشروعات الاستراتيجية تجاوزت 52%، والجدير بالذكر أن تفاصيل ومسوغات توزيع هذه المشاريع ليست واضحة، بل ليست متاحة على الأقل على المنصات الإلكترونية للوزارة؛ ما يجعل محاولة تفسير وتقييم توزيع المشروعات غير ممكن ولا يضيف جديدا مفيدا. النظرة الأولية للأرقام تعطي انطباعا بوجود تنمية مكانية متوازنة، إلا أن هذا الانطباع ليس كافيا إذ أن التوازن الرقمي ليس هو المؤشر الوحيد، حيث إنه من المهم معرفة أولويات وضرورات احتياجات هذه المناطق، ومدى تلبية هذه المشروعات لهذه الأولويات، ومستوى مساهمة هذه المشروعات في خلق تنمية مستدامة في تلك المناطق.

             شكل3: توزيع المشروعات على الجهات المنفذة

  المصدر: الموقع الإلكتروني لوزارة التخطيط

صندوق التنمية وإعادة إعمار ليبيا

في استمرار لمشهد الانقسام السياسي أصدر البرلمان القانون رقم 1 لسنة 2024 م بشأن إنشاء صندوق التنمية وإعادة إعمار ليبيا، الأمر الذي رفضه المجلس الأعلى للدولة، واعتبره استخفافا بالمجلس، وتعدي على السلطة التنفيذية، وتجاوزا لاختصاصاتها، كما عده تعمدا لتجاهل المبادئ الحاكمة لسير العملية السياسية، هذا الخلاف بين مؤسسات الدولة السيادية يتناقض مع أساس ومبدأ إعادة الإعمار. القانون جعل الصندوق يتمتع بالشخصية الاعتبارية والذمة المالية المستقلة، كما منحه صلاحية المشاركة في وضع السياسات والاستراتيجيات العامة لإعمار وتنمية وتطوير المدن والمناطق الليبية، وأن يقوم بالتنسيق مع المكاتب الاستشارية المحلية والدولية في وضع المخططات العمرانية اللازمة للإعمار. من مهام الصندوق تنفيذ مشروعات التطوير وإعادة إعمار المدن والمناطق المستهدفة، كما يحق له إنشاء الشركات والمشاريع الاستثمارية التي تعود عوائدها له، مدير الصندوق له صلاحيات واسعة أهمها: إعداد اللوائح التنظيمية لعمل الصندوق، منها: اللائحة المالية، إبرام التعاقدات اللازمة لتنفيذ مشروعات الإعمار، تحضير مشروع الميزانية والحساب الختامي، عقد اتفاقيات التعاون وتبادل الخبرات مع الهيئات والمنظمات المحلية والإقليمية والدولية، وبموجب القانون فإن إيرادات الصندوق تتكون من عدة مصادر، أهمها: تصدر له ميزانية خاصة تقدم من الصندوق لمجلس النواب للاعتماد، و الهبات و المساعدات غير المشروطة – والتي قد تشكل مدخلا للفساد الإداري بحسب مراقبين- إضافة للقروض والمساهمات المقدمة من المؤسسات المحلية والدولية والمصارف التجارية. ونقل القانون للصندوق تبعية 10 أجهزة، منها صندوق إعادة إعمار مدينة درنة، وبموجب القانون تستثنى كافة الإجراءات والتعاقدات التي يبرمها الصندوق من تطبيق أحكام لائحة العقود الإدارية، وكذلك من قانوني الرقابة الإدارية وديوان المحاسبة، وبالرغم من هذه الصلاحيات الواسعة، لم يرد في القانون أي شيء بخصوص آليات الرقابة والتدقيق في أعماله.

وقّع الصندوق مع رئيس شركة نيوم المصرية، ورئيس شركة وادي النيل، عقودا ضخمة في مجال الإنشاء والإعمار، وفق ما نُشر عبر صفحات التواصل الاجتماعي، والموقع الإلكتروني للصندوق، وشملت العقود إنشاء ستة جسور جديدة بمدينة درنة، وإنشاء جسرين جديدين في مدينة اجدابيا، وفي مدينة بنغازي تقرر إنشاء ثلاثة جسور جديدة، كما  أعلن بلقاسم حفتر-مدير الصندوق- خلال اجتماع برئيس حكومة الاستقرار أسامة حماد في سرت، أنه  سيشرع في صيانة مطار وميناء سرت، بالإضافة إلى صيانة وتطوير المقرات الحكومية والمستشفيات، وغيرها من مشاريع الإعمار في المدينة. بيانات وإحصائيات ومصادر تمويل هذه المشروعات غير مفصح عنها بشكل واضح ومتاح.

تقييم عمليات التنمية والإعمار

لتقييم الفعالية الاقتصادية لمشروعات التنمية في ليبيا، يمكن النظر في عدة أدوات، منها مثلا العائد على الاستثمار، أو تحليل نسبة العائد المتوقع من المشروع، مقارنة بالتكاليف الاستثمارية، هذا على المستوى الجزئي، وعلى المستوى الكلي يمكن قياس تأثير المشروع على الناتج المحلي الإجمالي، ودراسة مدى مساهمة هذه المشروعات في زيادة الناتج المحلي الإجمالي على المدى الطويل، ومن المهم كذلك  تقييم مدى استدامة المشروعات بيئيًا واجتماعيًا، وضمان عدم التأثير السلبي على الموارد الطبيعية المحلية، والتقييم الأشمل هو قياس مدى تحقق الأهداف الاستراتيجية من هذه المشروعات، ومساهمتها في تحقيق التنمية المستدامة، من خلال خلق فرص عمل في مختلف القطاعات، وانخفاض معدلات البطالة، وارتفاع الدخل القومي، وتعزيز بناء البنية التحتية للأنشطة الاقتصادية، مثل: التجارة والصناعة والسياحة؛ مما يحفز النمو الاقتصادي الشامل، وتوفير الخدمات الاجتماعية الأساسية، مثل: الكهرباء والماء والصحة والتعليم وتحسين جودة الحياة، وتحقيق البيئة المستقرة والآمنة لتشجيع المستثمرين على ضخ رؤوس الأموال؛ مما يزيد من تدفقات الاستثمار، وغيرها من المقاييس التي تحدد مدى نجاح عملية التنمية، إلا أن البيانات ليست متوفرة ولا معروضة على منصات الجهات المسؤولة بشكل منظم وسلس، تجعل المعلومة متاحة للجمهور العام، وبخاصة البُحّاث؛ ما يجعل مسألة الشفافية محل تساؤل، وتزيد من حالة عدم الثقة، فمثلا: شروط العقد، وخاصة مع الشركات الأجنبية غير متاحة ولا يُعرف إذا كانت هذه العقود تخضع لإطار عام موحد، يعكس رؤية وطنية للتنمية، أو على الأقل اتجاه عام، فهل يتضمن العقد على سبيل المثال حصة تمثل الحد الأدنى لتشغيل العمالة الوطنية؟، وماهي الشروط الجزائية؟، وغيرها من المواد التي تضمن مساهمة مشاريع الإعمار في خلق تنمية اقتصادية واجتماعية ومكانية مستدامة، وبالتالي التقييم الشامل – بل وحتى التقييم الجزئي – لهذه المشاريع ليس في المتناول؛ ما يشكل عقبة أساسية أمام تكوين وعي وطني عام، ما يعد في حد ذاته قصورا في الهدف التنموي المرجو من هذه المشاريع.

الخلاصة

غياب رؤية استراتيجية موحدة لإعادة الإعمار يأتي إلى جانب الانقسام السياسي على رأس هذه التحديات، وعلى الرغم من تحسن الوضع الأمني، إلا أن بؤر التوتر لا تزال قائمة؛ مما يشكل عائقًا أمام تنفيذ المشروعات، ويمثل الفساد الإداري عقبة كبيرة تؤثر على كفاءة استخدام الموارد وتوزيعها بشكل فعّال، كذلك نقص المهارات الوطنية، ومصادر التمويل؛ يشكل تحديا جوهريا، خصوصا في ظل الضغوطات الاقتصادية الحالية، ولضمان نجاح مشروعات التنمية وإعادة الإعمار في ليبيا، من الضروري تعزيز الشفافية والمساءلة في إدارة المشروعات؛ لمكافحة الفساد من خلال تشريعات صارمة، كما يجب الاستثمار في تدريب وتأهيل القوى العاملة المحلية؛ لضمان استدامة المشروعات، والبحث عن مصادر تمويل متنوعة، بما في ذلك الشراكات مع القطاع الخاص، ويعد ضمان الاستقرار الأمني من خلال تعزيز وتطوير سياسات المصالحة الوطنية، جزء حيويا ورئيسيا من عملية إعادة الإعمار. إن مشروعات التنمية وإعادة الإعمار في ليبيا، تشكل فرصة مهمة لتحقيق الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي، ولكنها تأتي مع تحديات كبيرة، ومن خلال تبني رؤية وطنية موحدة، ووضع سياسات مدروسة، والتعاون بين مختلف الجهات المعنية، يمكن لليبيا أن تتجاوز هذه التحديات، وتحقق نهضة اقتصادية مستدامة.