Skip to main content

الملخص التنفيذي

   تتناول هذا التقرير تداعيات مقتل عبد الغني الككلي، رئيس جهاز دعم الاستقرار في طرابلس، باعتباره حدثًا فارقًا في توازن القوى الأمنية والسياسية داخل العاصمة الليبية. يشكّل مقتل الككلي لحظة كاشفة لنهاية نموذج “الشرعية الهجينة” الذي حكم طرابلس لسنوات، ويكشف عن هشاشة البنية الأمنية التي تأسست على شراكة غير مستدامة بين السلطة التنفيذية والتشكيلات المسلحة. خلص التقرير إلى أن السيناريو الأكثر ترجيحًا هو إعادة تموضع التشكيلات المسلحة في طرابلس ومحيطها، مع تصاعد احتمالات الصدام المسلح والفوضى الأمنية. ويوصي التقرير بحزمة إجراءات تتضمن حوارًا مشروطًا، وتفعيل برامج نزع السلاح، وبناء مؤسسة أمنية وطنية مستقلة عن الولاءات المناطقية والجهوية، بدعم دولي فعّال ومنسّق.

المقدمة

في 12 مايو 2025، قُتل عبد الغني الككلي، المعروف بـ”غنيوة”، رئيس جهاز دعم الاستقرار في طرابلس، في حادثة مسلّحة خلال اجتماع بمعسكر التكبالي. مثّل هذا الحدث نقطة تحوّل استراتيجية في بنية الحكم الأمني والسياسي في العاصمة والغرب الليبي، كونه أنهى فعليًا واحدًا من أبرز أركان توازن القوة الذي ساد في طرابلس منذ توقيع اتفاق الصخيرات عام 2015. هذه الحادثة تسلّط الضوء على أزمة الشرعية المركبة التي تعاني منها الدولة الليبية، حيث ظلّت تتقاسم أدوات العنف بنوعيه “القاتل، والمنظم”، مع تشكيلات مسلحة تمتعت بغطاء رسمي؛ ما جعل مؤسسات الدولة عرضة للاختراق وفاقدة لاحتكار السلاح.

الوقائع (الرصد والوصف)

في 5 مايو 2025، شنّت قوة تابعة لجهاز دعم الاستقرار هجومًا على مقر شركة الاتصالات القابضة في حي النوفليين، واحتجزت مديرها ونائبه، وأصيب عدد من الأفراد ينتمون إلى مدينة مصراتة، أحد الأطراف الأساسية في الواقعة محل البحث، ضمن سياق تصعيد بين الجهاز والحكومة على خلفية صراعات نفوذ داخل القطاع الاقتصادي والأمني.

مكونات ساسية واجتماعية وعسكرية في مصراتة، من أطراف عدة بينهم معارضون لحكومة ادبيبة، اتخذت موقفا من حادثة الشركة القابضة، وأرسلت مطالب لـ”اغنيوة” من بينها تسليم المسؤولين عن إطلاق النار على المصابين ورفع يده عن الشركة القابضة.

أعقب سلسلة الأحداث هذه اجتماع أمني عاجل في معسكر التكبالي ضم غنيوة الككلي، وقيادات حكومية، وعناصر من اللواء 444، وقيادات من المجلس العسكري بمدينة مصراته، إلا أن الاجتماع انقلب إلى مواجهة مسلّحة سقط فيها الككلي وعدد من مرافقيه.

عقب الحادث، استولت قوات تابعة للحكومة على مقار جهاز دعم الاستقرار، فيما انسحب ما تبقى من عناصر الجهاز إلى قاعدة معيتيقة، حيث التحقت بعض المجموعات بقوة الردع، بينما انتقل آخرون إلى مناطق ورشفانة والزاوية. كرد فعل، أعلن رئيس الحكومة عبد الحميد الدبيبة حل الأجهزة الأمنية الموازية، كان في مقدمتها الشرطة القضائية، التي يترأسها أسامة نجيم، وشنّ حملة أمنية ضد مقارها، ومضت الأمور بشكل سلس بالنسبة للحكومة، إلا إن الأمور تطورت إلى مواجهة شديدة في مناطق عديدة في العاصمة طرابلس، وفي أحياء سكنية شديدة الازدحام بالسكان.

     التحليل الاستراتيجي

  1. أزمة الشرعية:

تكشف هذه الحادثة عن سقوط تجربة الدمج السياسي–الأمني التي تأسست على قاعدة “توازن المصالح” بين الدولة والتشكيلات المسلحة. فقد مثّلت تجربة جهاز دعم الاستقرار حالة نموذجية لما يُعرف بالشرعية الهجينة، حيث تتغوّل قوى غير نظامية داخل مؤسسات الدولة تحت ذرائع الأمن والاستقرار، بينما في الحقيقة تسعى لمصالح فئوية ومناطقية، في مقابل ممارة ومسايرة، بل واعتراف بسلطتها ونفوذها من قبل الحكومة.

  • إعادة رسم خارطة النفوذ:

تفكيك جهاز دعم الاستقرار والاستيلاء على مقاره، يشير إلى تغيير كبير في موازين القوى في العاصمة. طرابلس الآن تدخل مرحلة إعادة تشكيل تحالفات جديدة، حيث تحاول التشكيلات المسلحة إعادة التمركز، وخلق مظلات أمنية جديدة، سواء داخل العاصمة أو في محيطها. الساحة الليبية لا تعرف فراغًا، بل تتحول باستمرار من شكل إلى آخر؛ لتعيد توزيع القوة والنفوذ.

  • القرار السياسي تحت رحمة السلاح:

على الرغم من إعلان رئيس الحكومة عن حل الأجهزة الموازية، إلا أن القدرات التنفيذية الحقيقية للدولة تظل محدودة، في ظل الوزن الذي تتمتع به التشكيلات المسلحة ضمن المؤسسات الرسمية. وبذلك، يبقى القرار السياسي أسيرًا للتوازنات المختلة والتوافقات غير المستقرة.

  • انكشاف العاصمة أمنيًا:

يعني تفكيك جهاز دعم الاستقرار، الذي كان أحد أعمدة “الضبط الجزئي” للعاصمة، انكشاف طرابلس أمام هجمات انتقامية، أو اختلالات أمنية على شكل عمليات خطف، واغتيالات، أو حتى تصفيات، خصوصًا في المناطق الهشة، مثل بلدية أبو سليم رابع أكبر بلدية في ليبيا. كما أن احتمالية تطور الوضع إلى مواجهات جديدة، بين جهاز الردع والقوة الداعمة لحكومة ادبيبة، يمكن أن يعزز حالة الانكشاف الأمني ويوسعها.

      السيناريوهات المحتملة

  1. تفكيك تدريجي للتشكيلات المسلحة وتعزيز سلطة الدولة:

يتطلب هذا السيناريو قيادة سياسية جادة تدفع نحو نزع السلاح، ودمج المقاتلين وفق برامج نزع السلاح، ثم التسريح، ثم إعادة الإدماج، وإعادة هيكلة القطاع الأمني، بحيث يخض الجميع للسلطة الشرعية دون استثناء. إلا أن هذا السيناريو يصطدم بتعقيدات الواقع الليبي، بما في ذلك ضعف الإرادة السياسية، والضغوط المجتمعية ذات الخلفية المصلحية، وتضارب المصالح الدولية، وحالة الانقسام على مستوى المحلي، غربا وشرقا وجنوبا، لذا فإن احتمالية وقوع هذا السيناريو منخفضة إلى متوسطة.

  • تموضع جديد للتشكيلات وعودة الصراع:

من المرجّح أن تتكتل التشكيلات المسلحة القائمة والتي واجهت التفكيك في تحالفات انتقامية، وقد تلجأ إلى تنفيذ هجمات خاطفة في طرابلس، أو إعادة تمركز في مناطق الغرب الليبي؛ لخلق بؤر توتر. هذا السيناريو مدعوم بتاريخ طويل من التحولات في الولاءات والتحالفات، وهذا ما يجعل احتمالية وقوع هذا السيناريو مرتفعة.

  • تدويل مسألة المأسسة الأمنية:

قد يسعى المجتمع الدولي، لا سيما عبر بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا، وبضغوط من أطراف دولية فاعلة ومؤثرة، إلى تعزيز تدخله في طرابلس عبر مقترحات لتشكيل لجنة أمنية مشتركة، أو إرسال قوة رمزية لمراقبة تنفيذ أي اتفاقات أمنية، إلا أن التدويل قد يثير مسألة الاعتداء على السيادة.

الاحتمالية: متوسطة.

       السيناريو المرجّح

السيناريو الأكثر ترجيحًا يتمثل في إعادة تموضع التشكيلات المسلحة داخل طرابلس ومحيطها، وتحول المواجهة إلى صراع منخفض الحدة، عبر هجمات انتقامية متفرقة واصطفافات مناطقية. ويُتوقع أن تشهد بعض المناطق في العاصمة حراكًا أمنيًا متزايدًا في ظل ضعف السيطرة المركزية.

العائق الأساسي أمام الحل هو غياب مشروع وطني جامع، واستمرار تفكك المؤسسات الأمنية على أسس جهوية ومصلحية، وتفاقم الانقسام، من خلال تعمقه على المستوى الوطني، وانتقاله إلى الاقاليم وداخل الجبهات التي كانت متماسكة نسبيا في السابق.

التوصيات

  1. احتواء عاجل للأطراف المسلحة المنسحبة عبر فتح قنوات حوار مشروط، تترافق مع رقابة صارمة لمنع إعادة تجميع القوة خارج العاصمة.
  2. تأسيس غرفة عمليات أمنية موحدة تضم قيادة الجيش والشرطة، بإشراف مباشر من الحكومة وبدعم تقني دولي؛ بهدف ضبط الأمن في طرابلس.
  3. تفعيل برامج نزع السلاح والتسريح وإعادة الدمج. بتمويل وإشراف أممي، مع آلية رصد ومساءلة شفافة.
  4. إطلاق مبادرة سياسية لإعادة هيكلة المؤسسة العسكرية والأمنية، على أسس احترافية وجغرافية تضمن الشمول الوطني، وتنهي حالة التغول الفئوي.

الخاتمة

لم يكن مقتل عبد الغني الككلي مجرد نهاية شخصية أمنية نافذة، بل كان محطة من محطات التدافع وتضارب المصالح، فيما اعتبره كثيرون لحظة حاسمة في معركة طويلة حول مستقبل الدولة الليبية، إلا إن المؤشرات الأولية تكشف أن التدافع الراهن ربما لا يفضي إلى تثبيت وإعادة بناء المؤسسات الأمنية على أسس سليمة ومتينة.

أيضا طرحت الأزمة سؤال مركزي: من يحتكر القوة، وما مدى شرعيته وأهليته؟ وهل ستبقى طرابلس رهينة التوازنات المسلحة، أم تتحول إلى عاصمة لدولة حقيقية تحتكر السلاح والقرار؟ الجواب لا يكمن فقط في تفكيك التشكيلات المسلحة، بل في إرادة سياسية تعيد تعريف معنى الدولة، وتفرض أليات تثبيت دعائمها، وتضع حدًا لانقسام الشرعية بين سلاح الدولة وسلاح التشكيلات.