عرفت اللجنة العسكرية المشتركة 5+5 بأنها الممثل العسكري للطرفين المتقاتلين بعد حملة حفتر العسكرية على العاصمة طرابلس وصده من قبل قوات عملية بركان الغضب، وتشكلت اللجنة العسكرية كإحدى النتائج الرئيسة لمؤتمر برلين الذي وضع خارطة الطريق للمشهد السياسي والعسكري، وهو ما تبنته البعثة الأممية بإطلاقها المساراتِ الثلاث، السياسي والاقتصادي والعسكري.
مع فشل المسار السياسي والإخفاق في إجراء الانتخابات في 24 من ديسمبر عام 2021 وما آل إليه الوضع من انقسام حكومي، ازداد الوضع تعقيدا وصار الجمود والانسداد السياسي هو سيد الموقف.
ولا يبدو المسار الاقتصادي في وضع أفضل من المسار السياسي، فالهدف الرئيس لهذا المسار، وهو توحيد المؤسسات المالية خصوصا مصرف ليبيا المركزي المنقسم بين بنغازي وطرابلس، لم يتحقق بالرغم من تقدم الحوارات والإجراءات العملية بين الطرفين، وانتهى الحال بالمصرف إلى استقالات في مجلس إدارته، احتجاجا على ما اعتبروه تفرد المحافظ بقرارات المصرف المركزي وإقالة مجلس النواب علي الحبري من منصبه كنائب للمحافظ.
وتتمسك الأمم المتحدة وبعثتها بالمسار العسكري، ثالث المسارات، ممثلا في اللجنة العسكرية المشتركة، كما تحرص على الإشادة بأعمال اللجنة، وقد تكرر هذا في إحاطات المبعوث الخاص أمام مجلس الأمن، ويرى مراقبون أن ذلك يرجع لكون المسار العسكري هو المسار الوحيد الذي لم يصل إلى حالة الانسداد، وهو ما تعتبره الأمم المتحدة إنجازا يعوض إخفاقها على المسارين السياسي والاقتصادي، ويضفي على أدائها نوعا من المصداقية.
أبرز إنجازات اللجنة العسكرية 5+5
في الـ23 من أكتوبر عام 2020 وقعت اللجنة العسكرية المشتركة في جنيف على اتفاق وقف إطلاق النار الدائم وهو ما يمكن اعتباره أبرز إنجازات اللجنة حتى اليوم، خصوصا وأن وقف إطلاق النار الدائم قد تم بالفعل ولم يتعرض لاختراق يهدد استمراريته، إلا أن مراقبين يرون أن وقف إطلاق النار يتعدى الإرادة الليبية إلى إرادة الأطراف الدولية المتدخلة في المشهد، وهي التي فرضت نفوذها في البلاد عقب حرب طرابلس بشكل يضمن مصالح الطرفين الروسي والتركي تحديدا، وهو ما يجعل توقيع الاتفاق الدائم لوقف إطلاق النار تحصيل حاصل.
في الـ30 من يوليو عام 2021 أعلنت اللجنة العسكرية المشتركة فتح الطريق الساحلي الرابط بين شرق البلاد وغربها بعد تعثر لأكثر من ستة أشهر إثر فشل المفاوضات بين طرفي اللجنة حول آلية فتح الطريق وإزالة الألغام وسحب المرتزقة. إلا إن المشتركة أعلنت خضوع الطريق الساحلي للجنة الترتيبات الأمنية التابعة لها، وقد كان لهذا الإنجاز الأثر البالغ على حياة المواطنين وحركة التجارة والنقل بين شرق البلاد وغربها، وهو ما حاولت الأطراف السياسية استغلاله لصالحها عبر استباق إعلان فتح الطريق الساحلي الرابط بين أكبر حاضرتين في البلاد، طرابلس وبنغازي.
أبرز إخفاقات 5+5
في الـ6 من أكتوبر عام 2021 انطلقت اجتماعات اللجنة العسكرية المشتركة 5+5 في جنيف لمناقشة وضع خطة عمل شاملة لانسحاب المرتزقة والقوات الأجنبية من ليبيا حسب ما أعلنت عنه البعثة الأممية إبان رئاسة يان كوبيش، وهو ما لم يتم حتى اليوم، إذ يرفض طرفا اللجنة تسمية القوات المستقدمة من الخارج بالمرتزقة وهو ما يعني أن هنالك مشكلة رئيسةً في التعريف المتعلق بمصطلح المرتزقة، برغم اعتبار البعثة الأممية ومؤتمر برلين الوجود الروسي والتركي غير شرعي، مساويا بينهما.
الشائع أن المرتزقة توصيف يطلق على المقاتلين غير النظاميين (غير عسكريين) الذين يقاتلون مقابل المال، ويجرد القانون الدولي المرتزقة من حقوقهم الأساسية كأسرى حرب، كما يمنع اعتبارهم مقاتلين يتمتعون بالحقوق التي يتمتع بها غيرهم من المقاتلين النظاميين المنخرطين في النزاع، ويعرف القانون الدولي المرتزق بعبارة مختصرة “ليس عضواً في القوات المسلحة لأحد أطراف النزاع، وليس من رعايا طرف في النزاع ولا متوطناً بإقليم يسيطر عليه أحد أطراف النزاع، يحفزه أساساً إلى الاشتراك في الأعمال العدائية، الرغبة في تحقيق مغنم شخصي.”
عليه فإن قوات فاغنر التي تعتبر شركة روسية خاصة تتقاضى المال مقابل خدماتها هي قوة مرتزقة خلافا للوجود التركي في الغرب الليبي والضباط الأتراك الذين يقومون بمهام التدريب والإشراف على تشغيل الآليات العسكرية المتطورة كالطائرات المسيرة، والممثل بشكل رسمي من خلال اتفاقية عسكرية أمنية بين الحكومة التركية والحكومة المعترف بها دوليا، حكومة الوفاق. مع التنبيه على أن استغلال عناصر من جنسيات أخرى في القتال أو تأمين المنشآت التي تشكلت وفقا للاتفاقية شوش على شرعية الوجود العسكري التركي في غرب البلاد.
ولأن اللجنة تمثل الواجهة الأمنية لقطبين سياسيين متنازعين ومختلفين في توصيف من استعانا بهم من قوات خارجية، صار تحقيق نجاح على مسار إخراج القوات الأجنبية والمرتزقة، وهو البند الأهم في اتفاق أكتوبر 2020م، غير ممكن، فاستقطاب الأطراف السياسية الليبية، يخضع لحالة جيوسياسية تتعلق بالتمدد الروسي إلى المياه الدافئة مقابل تنامي النفوذ التركي الإقليمي.
من الأهداف الأساسية للجنة العسكرية المشتركة 5+5 توحيد المؤسسة العسكرية المنقسمة منذ إطلاق عملية الكرامة بقيادة حفتر الذي أعلن الانقلاب على الإعلان الدستوري في فبراير من عام 2014 وقاد حربا في مدينة بنغازي قبيل تعيينه قائدا عاما للجيش الليبي من قبل مجلس النواب في طبرق وما تبع ذلك من سيطرة قوات فجر ليبيا على المنطقة الغربية كلها، وانتهى الوضع إلى تشكيل كيانيين عسكريين متضادين.
لم تنجح اللجنة العسكرية المشتركة حتى اليوم في احتواء النفوذ العسكري للميليشات في الغرب وسلطة حفتر وأبنائه في الشرق.
ومن أسباب تعثر الاتفاق على توحيد القوتين في الغرب والشرق هو الخلاف بين أعضاء اللجنة العسكرية المشتركة حول مفهوم الجيش وهويته وتكوينه الذي يرجع إلى خلاف بين من يمثلانهما ضمن جبهتيهما، فبرغم قناعة أعضاء اللجنة عن الجبهة الغربية أن الوضع الأمني والعسكري في مناطقهم ليس مثالا جيدا على المؤسسة العسكرية النظامية، يعتبر أعضاء اللجنة التابعون للجيش الذي يقوده حفتر أنهم جيش نظامي ينبغي أن يكون هو الأساس لإعادة توحيد القوات المسلحة، وهذا توجه غير مقبول في الغرب.
هناك مؤشرات واضحة على أن الموقف النخبوي والشعبي لا يعكس الخلاف بين أعضاء اللجنتين بخصوص توحيد المؤسسة العسكرية، فثنائية الجيش في الشرق مقابل المليشيات في الغرب التي عششت في أذهان كثيرين تبدلت خلال السنوات الثلاث الماضية، وظهر أن سلوك العديد من قيادات الجيش وعناصره لا يختلف عن سلوك قادة المليشيات وعناصرها، والوقائع في الشرق، خاصة مدينة بنغازي، تكشف عن صراع دموي ضحاياه مدنيون وعسكريون، وتغولت كتائب تصنف أنها نظامية ووقعت في ممارسات تصنف بأنها جرائم مثل سلب الممتلكات الخاصة والاعتقال التعسفي والقتل خارج القانون. كما لم يعد خافيا دور العائلة في الجيش وازدياد نفوذ نجلي حفتر، صدام وخالد، كقائدين لكتيبتين عسكريتين تُجنّد مباشرةً بميزانيات خاصة.
على الجانب الآخر، لا وجود لمؤسسة عسكرية منضبطة في المنطقة الغربية، فنفوذ قادة الميليشيات يفوق سلطة رئاسة الأركان التابعة للمجلس الرئاسي، وهم غير مؤهلين عسكريا، ويخضع ترتيب وتنظيم الكتائب ومناطق نفوذها إلى قادتها وليس للحكومة أو المجلس الرئاسي، وتتعرض الحكومة لضغوط لا طاقة لها بها من قبل هذه المليشيات، والاستثناء محدود.
وقع بعض التطور على مسار التوافق بين الكيانين العسكريين في الغرب والشرق، ومن ذلك زيارة رئيس أركان قوات حفتر لرئيس أركان حكومة الوفاق في العاصمة طرابلس حيث اعتبرت هذه الخطوة تطورا إيجابيا في العلاقة بين الطرفين، وثمرة من ثمار اللجنة العسكرية المشتركة 5+5، إلا أنه لا يمكن البناء على هذه الزيارة ومثيلاتها في توحيد المؤسسة العسكرية، خاصة وأن كلا منهما لا يمثل الثقل الحقيقي في معادلة التوازن الأمني والعسكري والترتيب لتوحيد المؤسسة العسكرية.
في الجبهة الشرقية لا يزال حفتر الحاكم، ومعلوم أنه يرفض الانصياع لأي قيادة مدنية في البلاد، ويصر على خضوع ما له علاقة بالجيش والأمن لسلطته ويرى في تعاظم نفوذه الأمني والعسكري الضمانة لوصوله إلى كرسي الحكم، فيما تعتبره مكونات أمنية وعسكرية في الغرب انقلابيا ومجرم حرب وترفض أن يكون على رأس المؤسسة العسكرية الموحدة.
الخلاصة
بالرغم من إعلان اللجنة الليبية العسكرية المشتركة 5+5 استئناف عملها منتصف الشهر الجاري بعد أن علقته منذ 8 أشهر، احتجاجًا على الجمود السياسي، وعدم تعاون أطراف معها في ترحيل المرتزقة والقوات الأجنبية وإنهاء فوضى المليشيات، وبالرغم من الاحتفاء والرعاية الأممية للجنة وتثمين أعمالها، إلا أن المهام المنوطة باللجنة تتعدى قدراتها، وما يؤكد ذلك هو التوقف عند إنجاز وقف إطلاق النار وفتح الطريق الساحلي وعجزها عن تحقيق تقدم في الملفات الأكثر أهمية وإلحاحا.
إن قرار إخراج القوات الأجنبية والمرتزقة من البلاد فوق صلاحيات اللجنة، بل إنه بات خارج صلاحيات القيادات السياسية والعسكرية في الغرب والشرق، وزيارة مدير وكالة المخابرات المركزية “وليام بيرنز” وتطور الحراك السياسي والأمني محليا وإقليميا تبعا لهذه الزيارة يكشف أن الوجود الروسي والتركي أكبر بكثير من توافقات لجنة عسكرية مكونة من ضباط ليبيين حتى مع افتراض حسن نواياهم والتقارب بينهم.
أما مهمة توحيد المؤسسة العسكرية فإنها لا تنفك عن النزاع السياسي، وهي بالتالي غاية بعيدة المنال في ظل الاستقطاب الراهن، وممكنة إذا وقع تغير جذري في مواقف أعلى الهرم في الدولة في الغرب والشرق.