في ظل الاهتمام الدولي بإنجاز الانتخابات في أقرب فرصة ممكنة في البلاد اجتمعت في العاصمة طرابلس اللجنة العسكرية 5+5 بالإضافة إلى القيادات الأمنية والعسكرية عن المنطقتين الشرقية والغربية. ويعد هذا الاجتماع العلني الأول الذي تحضره القيادات الأمنية والعسكرية التي وقع بينها قتال عنيف في حرب طرابلس عام 2019، وهو ما جعل منه لقاء مثيرا للجدل بين مستاء ومرحب ومؤيد ومعارض ، ذلك أن ذاكرة الحرب ما تزال حاضرة في الأذهان.
السياق السياسي للقاء
جاء البيان الختامي لاجتماع اللجنة العسكرية 5+5 بطرابلس مؤكدا على التزام من حضر اللقاء بكل ما ينتج عنه، كما أكد البيان على استمرار اللجنة في العمل على مسار توحيد المؤسسة العسكرية وإيجاد حكومة موحدة لكل مؤسسات الدولة الليبية، إضافة إلى المضي قدما في مسعى الانتخابات،كما ختم البيان بالإعلان عن عقد اجتماع آخر في مدينة بنغازي خلال هذا الشهر.
يأتي السياق السياسي لاجتماع اللجنة العسكرية 5+5 وقادة بعض الكتائب الأمنية والعسكرية بعد جولة وزيارة مساعدة وزير الخارجية الأمريكي لشؤون الشرق الأدنى، باربرا ليف، وابتداء جولتها بحفتر وعقيلة صالح في بنغازي ومن ثم لقاءها بالمسؤولين في طرابلس.
كما أن اللقاء يأتي في سياق خطة باتيلي التي تبدو الطريق أمامها ممهدة بفعل الاهتمام الأمريكي والذي يبدو في حالة من الجدية بحيث يجعل من اجراء الانتخابات في أقرب وقت هدفا للسياسة الخارجية الأمريكية التي باتت تنظر للملف الليبي بأهتمام أكبر نتيجة للحرب الروسية على أوكرانيا.
البيان ركز على ثلاث قضايا مهمة، فبالإضافة إلى تأمين الانتخابات، وردت نقطة توحيد المؤسسة العسكرية، وقدوم ممثلين عن حفتر من الشرق من عسكريين وأمنيين ولقاءهم بقيادات مصنفة من قبلهم بأنها مليشاوية وخارجة عن القانون، يدلل أن الموقف تغير ولو بشكل مؤقت، وأن الفواعل العسكرية والأمنية في الغرب الليبي لا يمكن أن تكون خارج أي سيناريو لترتيب الوضع الأمني والعسكري. بالمقابل، فإن الحضور المنوع للفواعل العسكرية والأمنية في الغرب الليبي يؤكد أنها يمكن أن تقبل بخطة التوحيد والدمج على أن تضمن التوازن والنفوذ بينها وبين الفواعل العسكرية والأمنية في الغرب. وبشكل أوضح فإن اللقاء قد يؤسس لمقاربة عسكرية وامنية لا يكون حفتر فيها متحكما بشكل مطلق بالقرار العسكري والأمني كما هو الوضع اليوم في الشرق.
الجديد في البيان هو الحديث عن إيجاد حكومة موحدة، وهو مطلب لا يدخل ضمن أجندة اللجنة المشتركة 5+5، وليس من اختصاصها، ومن المؤكد أنه من ضمن مطالب وفد الشرق للمضي إلى الأمام على مسار توحيد المؤسسة العسكرية وتأمين الانتخابات، وبحسب معلومات مؤكدة فإن توافقا وقع بين قيادات سياسية وأمنية في الغرب والشرق على تكليف شخصية من مدينة مصراتة ليس طرفا في النزاع الحكومي الراهن لرئاسة الحكومة، ويبدو أن اجتماع العاصمة أكد على هذا التوجه ويدعمه.
فاغنر الحاضرة الغائبة
لم يتسرب شي من اجتماع العاصمة بخصوص إخراج قوات فاغنر، غير أنه لا يمكن فصل الاجتماع عن الحراك الأمريكي الذي بدأ مطلع العام بزيارة رئيس وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية وليام بيرنز للبلاد والتي تأتي في سياق استراتيجية أمريكية تتعلق بمناطق النزاع التي تمثل مجال حيوي بالنسبة للولايات المتحدة خاصة في ملف أمن الطاقة وتدفقها نحو أوروبا بشكل منتظم، كذلك مواجهة النفوذ الروسي وقوات فاغنر في إفريقيا والتي وردت ضمن الاستراتيجية الأمريكية كمخطر يصادم المصالح والأمن القومي الأمريكي.
يشكل ملف الطاقة وتدفقها المنتظم ووجود قوات فاغنر الروسية الاهتمام الرئيسي الأمريكي بليبيا وهو ما أكدت تسريبات صحفية بأنها كانت المحور الرئيسي لزيارة بيرنز لكل من حفتر والدبيبة بالإضافة إلى موضوع التعاون في إجراء الانتخابات، وبحسب هذه التسريبات فقد طلب بيرنز من حفتر تشكيل قوة موحدة مع حكومة الوحدة الوطنية لتأمين المنشآت النفطية، وجاء الإعلان عن تشكيل تلك القوة في اجتماع روما برعاية قيادة قوات الأفركوم وحضور كل من رئيسي أركان قوات الغرب والشرق في ليبيا.
هناك قراءة ترجح أن لقاءات لجنة 5+5 التي تشرف عليها البعثة واجتماع روما الذي انتهي إلى قرار تشكيل قوة موحدة تمضي في مسار واضح وهو مواجهة قوات فاغنر على الأرض وإخراجها من البلاد بإشراف أمريكي ودعم لوجيستي من حلفاء الولايات المتحدة، ومن غير المستبعد أن تشكل اللقاءات في طرابلس وبنغازي الخطوة الأولى وهي كسر الحواجز النفسية بين الفريقين ودعم حالة الوئام والتوافق ولو مرحليا يؤدي في نهاية المطاف إلى المواجهة مع قوات فاغنر، مع التنبيه أن مساعدة وزير الخارجية لشؤون الشرق الأدني، باربا ليف، طلبت ذلك من حفتر بشكل صريح وكان الرد أنه يحتاج إلى ضمانات أكثر لأي تعاون يؤدي إلى خروج حلفاءه الرئيسيين من مناطق نفوذه في وسط وجنوب البلاد.
تقارب تكتيكي مؤقت
في سيناريو مقابل لما سبق عرضه، يرى بعض المراقبين أن اللقاء الذي تم في قصور الضيافة بطرابلس والذي حضره ممثلون عن القيادة والذي وإن تم تحت غطاء اللجنة العسكرية المشتركة 5+5 إلا أنه من حيث السياق يمضي في مسار آخر لا يتقاطع بالضرورة مع مسار توحيد المؤسسة العسكرية والذي يبدو أنه مسارا مليء بالعقبات السياسية والتي لا يتحكم فيها العسكريون.
ووفقا لهذا الطرح يمكن اعتبار اجتماعات قادة التشكيلات العسكرية الممثلة عن جبهتي حفتر وحكومة الوحدة الوطنية تماهيا مع ضغوطات أمريكية مباشرة للتمهيد لإخراج قوات الفاغنر بإشراف أمريكي وتأمين إجراء الانتخابات المزمع عقدها هذا العام، وبتحقيق الأهداف المذكورة تنتهي الأسباب الدافعة نحو هذا الوفاق المؤقت بين الجبهتين. كما أنه بحسب تجربة حفتر في التسع سنوات الماضية فإنه يصعب التنبوء بسلوكه مع من يتحالف معهم، أيضا فإن للتشكيلات الأمنية في المنطقة الغربية نفوذا سياسيا ومصالح اقتصادية يصعب أن تتنازل عنها دون ضمانات يبدو أنه لم يتم التطرق إليها، وهو ما يرجح أن المسار الحالي هو مسار مؤقت دافعه خارجي لا ينبع من حاجة حقيقية للأطراف العسكرية والأمنية بناء على تهديدات ومخاطر مشتركة للطرفين.
اجتامع العاصمة في سياق خيارات البعثة
تبدو خيارات البعثة الأممية واضحة هذا العام عكس خياراتها قبل عام في حوارات القاهرة التي لم يرشح عنها شيء نتيجة التعطيل المتعمد وغياب الضغط على المجلسين للإنجاز، أما اليوم فتبدو الخيارات أمام باتيلي أكثر نجاعة في الضغط على مجلسي الدولة والنواب للتفاعل مع مبادرته المؤطرة بزمن محدد وهو شهر يونيو الذي جعلته البعثة موعدا نهائيا لاتمام القوانين الانتخابية. كما أن تفعيل لجنة الانتخابات رفيعة المستوى لا تبدو مستبعدة في حال فشل المجلسان في إنتاج قوانين انتخابية متوافق عليهما وخصوصا وأن النقاط الخلافية بين الجسمين عصية على التوافق. .
مستقبل العملية الانتخابية
يمكن اعتبار اجتماع لجنة 5+5 الذي جرى في طرابلس مطلبا للبعثة الأممية متعلق بالانتخابات، إذ أن تأمين العملية الانتخابية من الناحية اللوجستية سيكون عامل ضغط آخر على السياسيين المعرقلين كما أنه يضمن سير العملية الانتخابية دون تعطيل من قبل التشكيلات صاحبة الارتباطات بقوى سياسية معرقلة.
تشكل عملية تأمين الانتخابات في حد ذاتها تحديا أمام نزاهتها وقبول الأطراف السياسية بها في حال شهدت الانتخابات ضعفا في الرقابة يؤدي إلى التزوير عبر شراء الأصوات أو التلاعب في الصناديق أو إتلافها والتي تعد مهددات أمنية مباشرة تعوق إقامة عملية انتخابية بمواصفات وشروط تتسم بالنزاهة والشفافية.
يمكن لمتابع المشهد السياسي أن يرى بجلاء تطويع البعثة لمساراتها السياسية والاقتصادية والعسكرية في اتجاه انجاز الانتخابات، فقد استطاعت توجيه لقاءات المسار العسكري إلى دعم العملية الانتخابية وتشكيل توافق بين الأمنيين والعسكريين لإنجاز انتخابات آمنة بحسب البعثة وهي أبواب كانت مسدودة في وجه البعثات الأممية المتعاقبة لولا الاهتمام الأمريكي والحرص على حلحلة الملفات المعقدة بطريقة يغلب عليها الاستعجال والسرعة والتي ما كان لها أن تتم دون ضعوطات سياسية مباشرة.
الخلاصة
تمثل لقاءات اللجنة العسكرية 5+5 في طرابلس والقادة الميدانين ورؤساء الوحدات الأمنية والعسكرية من طرف حكومة الوحدة وقوات حفتر استجابة مباشرة للضغط الأمريكي الذي بات يدفع القوى السياسية والعسكرية نحو الانتخابات وتأمينها بشكل عاجل.
أيضا تأتي اللقاءات في سياق استراتيجية وحراك أمريكي هدفها مجابهة الوجود الروسي المتمثل في قوات شركة فاغنر في البلاد.
يظهر مجلسا النواب والأعلى للدولة في حالة ضعف أمام الضغوط الدولية والتي عبر عنها المبعوث الأممي الخاص عبدالله باتيلي في عدة مواطن من إنه سيضطر إلى “الإجراءات البديلة الممكنة” في حال فشل مجلسي النواب والأعلى للدولة في التوصل إلى اتفاق حول قوانين الانتخابات في الوقت المناسب، وأن اللجنة التي سيشكلها المجلسان يتعين عليها الانتهاء من القوانين في يونيو القادم ليتسنى إجراء الانتخابات خلال هذا العام.
يبدو طموح المبعوث الأممي في إنجاز الإنتخابات هذا العام أكثر وضوحا من ذي قبل كما يظهر الاهتمام الأمريكي بتيسير عمل البعثة الأممية بشكل أوضح، ويبدو أن البعثة تستثمر الضغط الأمريكي لصالحها كما أن النظر إلى سياق الأحداث يجعل الحضور الأمريكي أساسيا في عمل البعثة فقد سبق لقاء لجنة 5+5 في طرابلس زيارة مساعدة وزير الخارجية الأمريكي باربارا ليف التي التقت بحفتر وحثته على التعاون ليتبع لقائها حضور ممثلي حفتر الرئيسيين في قصور الضيافة بطرابلس.



