مقدمة
تعرف الاعتمادات المستندية على أنها أداة مالية تستخدمها البنوك لتسهيل عمليات التجارة الداخلية والدولية، وتقوم على تعهد البنك بدفع قيمة معينة (ثمن البضاعة أو الخدمة) للبائع، بشرط أن يقدم المستندات المطلوبة التي تثبت شحن البضاعة أو تقديم الخدمة، وفقًا للشروط المتفق عليها بين البائع والمشتري. ووفقا لهذا الطرح تمثل هذه الاعتمادات وسيلة دفع آمنة في عمليات الاستيراد والتصدير، حيث يضمن البائع الحصول على مستحقاته، ويطمئن المشتري إلى أن الدفع لن يتم إلا عند تنفيذ شروط العقد.
وفي ليبيا يتم فتح هذه الاعتمادات لتسهيل عملية الشراء، ومن ثم فهي عملية ميسرة تساعد في جلب السلع والخدمات بيسر للدولة الليبية. ومع ذلك فهي تتعرض لعمليات هدر من جانب، ومن جانب آخر قد يتخللها شبهة فساد. لا سيما وأن ليبيا تقع في المرتبة 173 من أصل 180 دولة في مؤشر مدركات الفساد 2024 الصادر عن منظمة الشفافية الدولية؛ مما يعكس مستوى عالٍ جدًا من الفساد.
وعليه، ففي هذا التقدير، تتم محاولة الوقوف على حالة الاعتمادات المستندية وأوجه الهدر وملامح الفساد في الدولة الليبية، وذلك من خلال الاعتماد على الوثائق الرسمية، والبيانات والاحصائيات من مصادرها الرسمي.
أولا: تطور قيمة الاعتمادات المستندية في الدولة الليبية حتى النصف الأول من عام 2025
تمثل الاعتمادات المستندية في ليبيا تعهدات صادرة عن بنك (المصرف المصدر) بناءً على طلب العميل (المشتري) للمورد (المستفيد) بدفع مبلغ معين مقابل تقديم مستندات تطابق شروط الاعتماد. وهذه الآلية تضمن للمستورد الحصول على البضائع، وللمصدر ضمان الحصول على قيمة الفاتورة، وتُدار هذه العملية بواسطة المصارف التجارية تحت إشراف مصرف ليبيا المركزي.
ووفقا لضوابط مصرف ليبيا المركزي يكون الحد الأعلى لقيمة الاعتماد المستندي الواحد الصناعي مبلغ 10 عشرة مليون دولار أمريكي، أو ما يعادله من العملات الأجنبية الأخرى، ويكون الحد الأعلى للاعتماد المستندي الواحد التجاري والخدمي 5 مليون دولار أمريكي، أو ما يعادله من العملات الأجنبية الأخرى (مصرف ليبيا المركزي،2024).
وفي يناير 2024، قام البنك المركزي الليبي بالحد من استخدام النقد الأجنبي، وذلك استجابة للضغوط على الاحتياطيات الأجنبية، حيث قام بتشديد القيود على فتح الاعتمادات المستندية وخفض الحدود المتاحة لمشتريات النقد الأجنبي لأغراض شخصية؛ مما أدى إلى اتساع الفجوة بين سعري الصرف في السوق الموازية والرسمية. وفي أوائل عام 2024، أُعلِن عن فرض ضريبة بنسبة 27% على سعر الصرف الرسمي للعملات الأجنبية بصفة مؤقتة، إلى جانب إرخاء بعض القيود التي سبق فرضها (صندوق النقد الدولي، 2024).
وكانت هذه البداية للحد من وجود هدر أو شبهات فساد في منظومة الاعتمادات المستندية التي يطبقها مصرف ليبيا المركزي. وقد تزايدت قيمة هذه الاعتمادات المستندية من (6725) مليون دولار إلى (8806) مليون دولار بين 1/1- 31/7 لعام 2024 و1/1- 31/7 لعام 2025، حيث تزايدت بنسبة 31% في سياق مقارن بين الفترتين، كما يتضح من الشكل التالي.

المصدر: قاعدة بيانات مصرف ليبيا المركزي. (2025). تقرير استخدامات النقد الأجنبي. ليبيا. على الرابط التالي https://cbl.gov.ly/micifaf/2025/08/%D8%AA% %8A%D9%88-2025-%D9%85.pdf.
وبتحليل أكثر للسنوات المالية السابقة، يوضح الشكل التالي تطور قيمة الاعتمادات المستندية خلال الفترة (2022-2024)، حيث تزايدت من (9581) مليون دولار إلى (12951) مليون دولار.

المصدر: مصرف ليبيا المركزي، المرجع السابق.
ثانيا: أوجه هدر الاعتمادات المستندية في ليبيا (المطرقة)
تثير قضية هدر الاعتمادات المستندية معضلات كبيرة لدى مصرف ليبيا المركزي، ففي ظل الاعتماد على الخارج، فإن الاعتمادات المستندية تظل بوابة للحصول على السلع والخدمات التي تساعد في سد الاستهلاك المحلي من السلع الأساسية، واستجلاب منتجات وسيطة تساعد في ضخ قواعد إنتاجية جديدة في ليبيا. ومع ذلك تتعرض هذه الاعتمادات لحالة من الهدر، فعلى سبيل المثال لا الحصر أظهرت بيانات مصرف ليبيا المركزي عن شهر مايو الماضي كما يوضح الجدول رقم (1) أحد أوجه الهدر لهذه الاعتمادات، حيث تم تخصيص قرابة (1.3) مليار دولار لاستيراد البسكوت والشكلاطة والمكسرات وذلك عن شهر مايو لعام 2025.
جدول رقم (1) الاعتماد المستندي لاستيراد البسكوت والشكلاطة الحلوة
| مبلغ الاعتماد (ألف دولار) | النوع | الشركة | المصرف |
| 250.8 | البسكوت والشكلاطة الحلوة | شركة أفريقيا الجديدة لاستيراد المواد الغذائية | المصرف الإسلامي الليبي أبو مليانة |
| 355 | البسكوت والشكلاطة الحلوة | شركة هادريان لاستيراد المواد الغذائية المحدودة | المصرف الإسلامي الليبي أبو مليانة |
| 1379 | البسكوت والشكلاطة الحلوة | شركة هادريان لاستيراد المواد الغذائية المحدودة | المصرف الإسلامي الليبي أبو مليانة |
| 77.8 | البسكوت والشكلاطة الحلوة | شركة الجزيرة لاستيراد المواد الغذائية المحدودة | المصرف الإسلامي الليبي أبو مليانة |
| 2965 | مكسرات | شركة الميرا للصناعات الغذائية والمواشي واللحوم | المصرف الإسلامي الليبي أبو مليانة |
| 62.03 | البسكوت والشكلاطة والخلوة | شركة منار الغد لاستيراد المواد الغذائية | مصرف التضامن قرقاش |
| 261.4 | بسكويت وشكلاطة | شركة الربيع الجديد لاستيراد المواد الغذائية | مصرف الخليج الأول ليبيا |
| 1330 | البسكوت والشكلاطة والخلوة | شركة الرماح لاستيراد المواد الغذائية المساهمة | مصرف المتحد- الفرع الرئيسي |
| 90.67 | بسكويت | شركة لين العالمية لاستيراد المواد الغذائية | مصرف النوران فرع مصراته |
| 171.6 | مكسرات | شركة المائدة الراقية لاستيراد المواد الغذائية | مصرف اليقين الفرع الرئيسي طرابلس |
| 2304 | بسكويت | شركة المذاق الطيب لاستيراد المواد الغذائية والمواشي واللحوم | مصرف اليقين الفرع الرئيسي طرابلس |
| 2490 | بسكويت | شركة المذاق الطيب لاستيراد المواد الغذائية والمواشي واللحوم | مصرف اليقين الفرع الرئيسي طرابلس |
| 132.07 | كريمة حلويات | شركة تجارة المستقبل لاستيراد المواد الغذائية | مصرف اليقين الفرع الرئيسي طرابلس |
| 143.8 | كريمة حلويات | شركة تجارة المستقبل لاستيراد المواد الغذائية | مصرف شمال افريقيا – الحي الرئيسي |
| 927.69 | بسكويت | شركة الطائف لاستيراد المواد الغذائية | مصرف شمال افريقيا – حي الاندلس |
| 1.2940.86 | الإجمالي |
المصدر: مصرف ليبيا المركزي. (2025). طلبات فتح اعتمادات مستندية عن شهر مايو. ليبيا. https://cbl.gov.ly/micifaf/2025/06/%D8%AA% 8%A7%D9%8A%D9%88.pdf.
ويوضح الجدول رقم (2) طلبات المصارف لتغطية الاعتمادات المستندية والحوالات للقطاع الخاص، حسب البلدان المستفيدة خلال الفترة (1/1 -31/7 لعام 2025)، حيث تتصدر الإمارات العربية المتحدة بنسبة (29.3%) تليها تركيا بنسبة (22.1%) ثم تأتي مصر ثالثا بنسبة (10.8%). ويلي ذلك كل من (سويسرا 4.8%) والصين (4%) والمملكة المتحدة (3.8%). بجانب مجموعة من الدول الأخرى تظهر في الجدول التالي.
الجدول رقم (2) طلبات المصارف لتغطية الاعتمادات المستندية والحوالات للقطاع الخاص حسب البلدان المستفيدة خلال الفترة (1/1 -31/7 لعام 2025)
| الأهمية النسبية | البلد المستفيد |
| 29.30% | الإمارات العربية المتحدة |
| 22.10% | تركيا |
| 10.80% | مصر |
| 4.80% | سويسرا |
| 4.00% | الصين |
| 3.80% | المملكة المتحدة (بريطانيا) |
| 2.90% | إيطاليا |
| 2.90% | تونس |
| 1.90% | إسبانيا |
| 1.40% | النمسا |
| 1.40% | تايلاند |
| 1.30% | اليابان |
| 1.00% | هولندا |
| 0.90% | سلوفاكيا |
| 0.80% | فرنسا |
| 0.80% | الأردن |
| 0.80% | سنغافورة |
| 0.70% | ألمانيا |
| 0.70% | كوريا الجنوبية |
| 0.50% | المملكة العربية السعودية |
المصدر: اعداد الباحث اعتمادا على بيانات مصرف ليبيا المركزي.
ثالثا: العلاقة بين الفساد والاعتمادات المستندية في ليبيا (السندان)
صنفت ليبيا بأنها ضمن أكثر 10 دول فسادًا عالميًا في 2024، حيث احتلت المرتبة 170 من بين 180 دولة. ويشير ذلك إلى الفساد في الدولة الليبية أصبح “وباءً” يؤثر على جميع مناحي النشاط الاقتصادي والاجتماعي. وقد تعرّض الاقتصاد الليبي إلى أخطار متنامية، إذ ارتفعت نشاطات التهريب، وتراجعت الثقة لدى المستثمرين الأجانب. ويلخص الشكل رقم (3) قيمة مؤشر الفساد في ليبيا وترتيبها بين قرابة 180 دولة في العالم خلال الفترة (2013- 2024) حيث يتضح أنها تقع في مراكز متأخرة للغاية.

المصدر: قاعدة بيانات منظمة الشفافية الدولية https://www.transparency.org/en/countries/libya
فعلى سبيل المثال لا الحصر برزت حالات استغلال الميزانية العامة بطرق غير قانونية، سواء عبر تجاوز الصلاحيات في الصرف، أو استخدام أموال مخصصة للطوارئ في غير محلها. على سبيل المثال: كشف ديوان المحاسبة أن مجلس وزراء حكومة الوحدة الوطنية تجاوز السقف المحدد لمصروفاته، وصرف من حساب الطوارئ على أمور لا تمت للطوارئ بصلة. كما سجلت هيئة الرقابة الإدارية في تقريرها لعام 2022 قيام الحكومة بتخصيص مبالغ هائلة دون اعتماد من مجلس الوزراء، مثل صرف 1.689 مليار دينار لمشروع تطوير مطار طرابلس الدولي و34 مليار دينار للمؤسسة الوطنية للنفط بدون موافقة مجلس الوزراء. هذه التصرفات تنطوي على انحراف جسيم عن الإجراءات القانونية، وتدل على تلاعب متعمد بالميزانية؛ لتحقيق مصالح خاصة أو مكاسب سياسية (رؤى ليبيا، 2025).
وفي سياق متصل، فإن الفساد في ليبيا يستشري في عمليات الاستيراد، حيث تُشكّل إدارة الجمارك بيئةً عالية المخاطر تتسم بانعدام الشفافية وتوقع دفعات غير منتظمة. وهذا يؤدي إلى زيادة التكاليف والتأخيرات على التجار مقارنةً بالمتوسط الإقليمي. وقد سلّطت منظمات دولية مثل: “سينتري” الضوء على تورط شخصيات نافذة في استغلال عقود الدولة ومواردها لتحقيق مكاسب شخصية، مما يُنشئ نظامًا قائمًا على الفساد يُقوّض التجارة المشروعة بشكل أكبر (The Sentry,2025).
وعليه، يُمثل الفساد عقبة كبيرة أمام الشركات العاملة في ليبيا، حيث تعاني جميع قطاعات الاقتصاد الليبي من الفساد المستشري؛ ومع ذلك، يُعد قطاع المشتريات العامة وصناعة النفط من بين أكثر القطاعات تضررا. كما تُعتبر الرشوة والمحسوبية ممارسة شائعة في جميع القطاعات، وتُعاني الشركات من المنافسة غير العادلة من الشركات المملوكة للدولة، والتي تُهيمن أيضًا على السوق المحلية (GAN Integrity Inc,2020).
ناهيك عن وجود عقود حكومية مشبوهة، حيث سادت ظاهرة إبرام عقود بمبالغ ضخمة بطريقة مباشرة أو خارج الأطر الشفافة. وظهر ذلك جليًا في قطاع الكهرباء، حيث تجاوزت تعاقدات الشركة العامة للكهرباء 16 مليار دينار في عام 2021 وحده – أي ما يقارب نصف إجمالي العقود المبرمة للقطاع بين 2001 و2021 – دون حل مشكلة انقطاع الكهرباء. هذه العقود وُصفت بأنها مشبوهة نظرًا لغياب التنافسية والرقابة، خصوصًا مع استمرار أزمة الكهرباء المزمنة. ناهيك عن شراء ساعات فاخرة كهدايا للضيوف بقيمة 12 مليون دينار، وتعاقده على 25 سيارة فارهة لموكب رسمي بمبلغ يتجاوز 21 مليون دينار (روى ليبيا، مرجع سابق).
الخاتمة
هدَف هذا التقرير إلى تحليل ورصد واقع الاعتمادات المستندية في الدولة الليبية بين مطرقة الهدر وسندان الفساد. وقد تبين أن الاعتمادات المستندية في ليبيا تشكل أداة أو قناة من قنوات تسهيل عمليات الاستيراد، ومساعدة الاقتصاد الليبي على تطوير قدراته الإنتاجية. ومع ذلك فإنه خلال السنوات الأخيرة، لم تسير الأمور على ما يرام، تارة بسبب ضعف أطر الحكومة والمساءلة، وأخرى بسبب حالة الاضطراب الداخلي وعدم الاستقرار السياسي.
وهو ما جعل الاعتمادات المستندية تتعرض لحالة من الهدر، حيث تنصرف إلى حالة من الهدر كما تم تسميتها في هذا المقال (بالمطرقة)، وتواجه بحالة أخرى من الفساد التي أطلق عليها (السندان)؛ ولذلك فإنه يجب على صانعي السياسات في ليبيا إعادة النظر في قوائم الاعتمادات المستندية، وتوجيهها نحو السلع الإنتاجية أو الوسيطة التي تدخل في الانتاج وتساعد في تطوير الاقتصاد الليبي، ناهيك عن تعزيز أطر الحوكمة والمساءلة، والحد من الفساد الكبير الذي تعانيه الدولة الليبية، من خلال تعزيز آليات النزاهة والشفافية.
قائمة المراجع
- مصرف ليبيا المركزي. (2024). منشور رقم 16 لسنة 2024 م بشأن الضوابط المنظمة للتعامل بالنقد الأجنبي. 14 أكتوبر. https://lawsociety.ly/legislation/%D9%85%D9%86%D8A9-2024-%D9%85-% /
- صندوق النقد الدولي. (2024). ليبيا: بيان خبراء الصندوق في ختام بعثة مشاورات المادة الرابعة لعام 2024. https://www.imf.org/ar/News/Articles/2024/05/10/mcs051024-libya-staff-concluding-statement-2024-art-iv-mission.
- رؤى ليبيا. (2025). الفساد في القطاع الحكومي الليبي (2011–2025): تحليل شامل. https://libyainsights.com/%D8%A7%D9%84%D9%81%D8%B3%D8%A7%D8%AF-%D9%81%D9%8AD/.
- The Sentry. (2025). “Deepening descent” into corruption in Libya, “parallels with Syria” https://thesentry.org/2024/12/12/80620Emirates%2C%20Turkey%2C%20and%20Egypt
- GAN Integrity Inc.(2020). Libya risk report. https://www.ganintegrity.com/country-profiles/libya/.



