طالبت شبكة تواصل الأحزاب السياسية مؤخرا بضرورة أن تكون أي قاعدة دستورية توافقية، وتنتج أساسا دستوريا مقبولا يقود إلى إجراء انتخابات في أسرع وقت ممكن. مضيفة في بيان لها أن الانتخابات لن تكون مقبولة ما لم تقر مشاركة الأحزاب السياسية في العملية الانتخابية وفق نظام القوائم الحزبية لأغلبية مقاعد البرلمان وبما يضمن حق المستقلين في الترشح.
ودعت الشبكة الأطراف المعنية بالتسوية السياسية إلى الإيفاء بالتزاماتهم ووعودهم بدعم إجراء الانتخابات بشكل حقيقي وواقعي يتضمن مواد دعم الأحزاب وبنودها، مؤكدين في الوقت ذاته أنهم سيلجأون إلى الوسائل القانونية المتاحة كلها لدفعهم للإيفاء بالوعود. جدد بيان شبكة الأحزاب تنبيهه للبعثة الأممية إلى “الخطأ الجسيم” المتمثل في تهميش الأحزاب في مسارات التشاور والحوار الذي تشرف عليه الأمم المتحدة، مشددين على أن الاستمرار في التجاهل يتناقض مع قرارات الأمم المتحدة في دعم الليبيين لوضع نظام تكون أهم ركائزه الأحزاب السياسية.
يجدر التذكير إلى كون شبكة الأحزاب مكونة من غالب الأحزاب السياسية الناشطة في الساحة على رأسها حزب الجبهة الوطنية وتحالف القوى الوطنية وحزب العدالة والبناء وحزب التغيير وبعض الأحزاب التي تأسست حديثا، إلا أن نشاط هذه الأحزاب وتأثيرها هو ما ينبغي أن يطرح للنقاش بالإضافة إلى مدى أصالة الأحزاب في العملية السياسية الليبية.
الأحزاب السياسية في النظام الديمقراطي
تمثل الأحزاب السياسية اللبنة الأساسية في النظام الديمقراطي، بل إن نشأة الأحزاب والتنظيمات السياسية تسبق قيام النظام الديمقراطي في أوروبا، وهو ما يجعل تصور وجود عملية ديمقراطية دون تجمعات سياسية أمرا غير ممكن في النظام السياسي الغربي، إذ تمثل الأحزاب الجسر الرئيس للتواصل بين فئات المجتمع المختلفة والنظام السياسي، كما أن الأحزاب تكون قائمة بالأساس لتمثيل مصالح الشريحة الأوسع من المواطنين وتوجهها لتحظى بذلك على تمثيل الشرائح المتنوعة في المجتمع، ويمكن اعتبار الأحزاب السياسية في العملية الديمقراطية الغربية هي الترس الأساسي لدوران العجلة السياسية والضامن الأكبر لاستقرار العملية السياسية وفق الأعراف والنظم المعمول بها.
الأحزاب السياسية الليبية حصاد عشرة أعوام
بعد إسقاط نظام القذافي عام 2011 ومساعي المجلس الوطني الانتقالي لتسليم السلطة لجهة منتخبة؛ شكلت الأحزاب السياسية اللبنة الرئيسة في تحديد معالم النظام السياسي الجديد الذي نتج عن انتخابات المؤتمر الوطني في العام 2012 وهي الانتخابات التي شهدت أكبر مستوى مشاركة التي بلغت 80%، وفازت فيها قوائم حزب تحالف القوى الوطنية بـ48% من مقاعد التكتلات السياسية التي كانت تمثل 80 مقعدا من أصل 200 وذلك بسبب قانون الانتخابات الذي أقره المجلس الوطني الانتقالي حينها الذي آثار جدلا واسعا كونه ضارا بالعملية الديمقراطية، إذ همش القوائم الحزبية لصالح مقاعد الأفراد وأضاف إلى ذلك نظام الصوت الواحد غير المتحول وهو نظام يعد من الأنظمة الانتخابية الأقل ديمقراطية وتعبيرا عن التمثيل الشعبي.
وبالرغم من المسار المتعثر من ناحية الإجراءات والقوانين الذي صاحب مسيرة الأحزاب، إلا أن وجود كتلتين حزبيتين مؤثرتين في المؤتمر الوطني فرض على الأفراد أو من يعرفون بالمستقلين بالتجمع أيضا في كتل سياسية ما سهل من عمل المؤتمر الوطني العام في جانب سن القوانين والنظر في مشاريعها بشكل سلسل بالمقارنة لما كان عليه المؤتمر الوطني العام في أول أيامه، بالمقابل، تسبب الخلاف بين الأحزاب في تعثر المسار التأسيسي الذي هو المهمة الأساسية للمؤتمر الوطني العام.
تجربة الأحزاب السياسية في المؤتمر الوطني العام غير مثالية لعدة أسباب على رأسها ارتباط بعض الأحزاب بمجموعات ضغط غير سياسي كان لها تأثيرها على المؤتمر الوطني العام، كما أن التسرب من الالتزام الحزبي كان ظاهرة ملحوظة، وهو ما صرح به رئيس تحالف القوى الوطنية حينها محمود جبريل منتقدا دور رئيس الحكومة المؤقتة علي زيدان، في الفترة بين عامي 2012م-2014م، الذي استطاع استمالة كتلة تحالف القوى الوطنية وتفتيتها وضرب فاعليتها لصالح الحكومة ما دفع بتأخير عدة مرات مسائلة الحكومة واتجاه عدد غير قليل من الأعضاء لحجب الثقة عنها.
كما أن ارتباط الأحزاب بالحالة الشعبية لم يكن عميقا كون القرار الحزبي لا يأتي بناء على انعكاس إرادة أعضاء هذه الأحزاب ومؤيديها، ولكنه كان من الأعلى إلى الأسفل بشكل مفاجئ، ما عزز حالة التسرب والانسحاب من التجمعات الحزبية وقلل من حالة الثقة والتعاطي مع الأحزاب السياسية لتكون بذلك أقرب ما تكون للواجهات السياسية المحدودة عوضا عن التمثيل الجماهيري السليم؛ وذلك بناء على عدم سلامة تأسيس الأحزاب من الناحية العملية، إذ الأحزاب في الأساس هي منتج يعبر عن مجموعة أو شريحة اجتماعية بعينها تنشط وفق إطار واضح من الفعل السياسي لأجل تحقيق الأجندة السياسية لمن وراءها من مجموعات مصالح أو شرائح اجتماعية أو طبقة اقتصادية.
يعد تمويل الأحزاب السياسية في ليبيا مكمن الداء والدافع لانعزال القادة الحزبيين عن الشرائح التي يمثلونها، فحين تمول الأحزاب السياسية من قبل أفرادها وأعضائها يكون صوت القواعد وطموحها معبرا عنه بشكل أوضح من الحالة التي تمول الأحزاب فيها من قبل دول وأطراف خارجية وهي بذلك تهيمن على القرار السياسي بطريقة ناعمة.
تجربة مجلس النواب وأثرها على الحياة الحزبية
لم يصمد المؤتمر الوطني العام طويلا أمام الضغوطات التي مورست عليه سواء بالاقتحامات المسلحة أو الحراك الداعي إلى إسقاطه المتأثر بشكل أو بآخر بالمحيط الإقليمي والضخ الإعلامي المكثف في ذلك الوقت، فكلف المؤتمر لجنة عرفت بلجنة فبراير التي وضعت خارطة طريق تضمنت انتخاب مجلس نواب جديد بقوانين انتخابية لا تتيح التنافس للقوائم الحزبية وذلك عبر قانون الصوت الواحد غير المتحول.
نتج عن هذا القانون مجلس نواب لا يمثل امتدادا طبيعيا للحالة السياسية التي سبقته وظهرت شخصية عقيلة صالح بعد أن حاز على غالبية الأصوات ليكون رئيسا لمجلس النواب منذ عام 2014 وحتى يومنا هذا كرمزية للحالة السياسية التي تمثلها حقبة مجلس النواب.
نتج عن غياب العمل الحزبي تحت القبة التشريعية والساحة السياسية بدائل يغلب عليها النزوع الجهوي والمناطقي والمحاصصة والتقاسم على الأساس القبلي الذي برهن عليه اعتماد حكومة الوحدة الوطنية التي ضمت أكثر من 30 وزيرا لترضية أعضاء النواب لتحوز الثقة بناء على هذه التشكيلة التي ربما كانت تسمية وزير ثمنها صوت واحد، وضمت حكومة باشاغا نحو 7 وزراء نواب أو على قرابة من الدرجة الأولى لنواب.
أي عودة للأحزاب في المشهد السياسي؟
مراقبون يرون أن الحالة الحزبية تمثل ضمانة لعمل سياسي أقل توترا وأكثر فاعلية، إلا أن غبش الرؤية والحضور الضعيف للأحزاب السياسية اليوم هي بين العوامل التي أدت إلى تهميش الأحزاب في العملية السياسي الراهنة والمقاربة الجديدة للتوافق. والمطلوب من الأحزاب أن تحرك الرأي العام لا أن تكون ضحية موقفها، وتتحدد مواقفها تبعا لمن يؤثرون في المشهد السياسي، ولقد كان تمرير القانون الانتخابي الذي ألغى نظام القوائم وأنتج مجلس النواب الحالي بموافقة أحزاب سياسية ودعمها في المؤتمر الوطني العام مثالا على ذلك الضعف.
مراقبون رأوا أن مطالبة الأحزاب بتضمينها في أي توافق على قاعدة دستورية يمثل حالة عجز ما لم يلحق بفعل سياسي نشط على الأرض، وبدا لهم أن الحالة الحزبية الراهنة ليست حيوية، ذلك أن أسماء الأحزب وقادتها غير معلومة للرأي العام فضلا عن أنشطتهم، وأن قبولهم ضمن التسوية القادمة رهن بفعلهم السياسي وقدرتهم على توجيه مكونات مجتمعية باتجاه إدراج الأحزاب في التنافس الانتخابي القادم.
خلاصة
دعوة الأحزاب السياسية في ليبيا إلى اعتماد قانون انتخابي يضمن مشاركة الأحزاب غير كافية، إذ إن بعض هذه الأحزاب تملك التأثير السياسي داخل أروقة المجلس الأعلى للدولة ويمكنها من خلال أعضائها الفاعلين في المجلس تضمين مطالبها، إلا أن الدعوة تأتي بسبب فقدان الأحزاب كمؤسسات التأثير السياسي المباشر تجاه أفرادها الناشطين في العملية السياسية وعلى رأسهم أعضاء الكتل السياسية في المجلس الأعلى للدولة التي شهدت انحسارا واسعا وتقلصا وانشقاقات وعدم فاعلية في أحيان أخرى. كما أن الأحزاب السياسية على الساحة السياسية ليست في حالة من البناء الحزبي الذي من المفترض أن يعكس عمق هذه الأحزاب وتجذرها من الناحية الاجتماعية، ربما بسبب الظروف السياسية والحروب من جانب، ومن جانب آخر بسبب ضعف التواصل واحتكار القرار السياسي الذي تمارسه القيادات المركزية للأحزاب ما يضعف من تماسك قواعدها الاجتماعية وينعكس سلبا على فاعلية الأحزاب وعلى دورها في المنتظم السياسي والشعبي.