Skip to main content

مقدمة

    تمثل الأجور (المرتبات) عائد عنصر العمل والذي يتحدد على إثره مستوى معيشة الموظفين والعمال وأسرهم. وكلما كانت سياسة الأجور متسقة وغير متمايزة، كلما ساعدت على تحقيق الكفاءة. وتعد الأجور أحد الأعمدة الأساسية في مكونات الإنفاق العام أو المصروفات العامة في كل الدول، غير أنها في الحالة الليبية تتخطى المعقول وتمثل علامة تشوه في الاقتصاد الوطني.

   تشكل الأجور أو المرتبات نسبة كبيرة من هيكل المصروفات في الميزانية العامة الليبية، فهي أكبر بنود الإنفاق الجاري وبفارق كبير عن سائر أبواب الميزانية الأخرى، حيث بلغت قرابة 60% من الإنفاق هذا العام، وتجاوزت هذه النسبة في أعوام سابقة.  

   إن وجود مراكز مالية قوية يسهل تحسين البيئة الاقتصادية ويمكن من خلالها استخدام سياسات الأجور لتقليل التفاوت في توزيع الدخل وتحفيز الطلب الكلي، وذلك عندما تكون وفق ضوابط وتعكس فاعلية الاقتصاد، وهذا ما تفتقر إليه ليبيا. وسيتم تقصي تطورات الأجور في البلاد من خلال المراحل التالية:

المرحلة الأولى: تطورات الإنفاق العام والأجور خلال الفترة (1980-2000)

يتفق خبراء الاقتصاد أن السياسات المالية من أهم السياسة الاقتصادية وذلك لدورها في ضبط أوضاع المالية العامة والمحافظة على الاستقرار الاقتصادي وتحقيق معدلات مُرضية من النمو. والمتتبع للوضع الاقتصادي في ليبيا سيلاحظ ضعفا واضطرابا في السياسة المالية يعكس عجزًا كبيرًا في حلحلة الأزمات التي تعصف بالاقتصاد الليبي بين فترة وأخرى .

ومنذ مطلع الثمانينيات من القرن الماضي شهد الاقتصاد الليبي تحولا جذريا محوره إبعاد القطاع الخاص عن النشاط الاقتصادي وهيمنة القطاع العام على معظم أنشطة الإنتاج والتوزيع والخدمات، وكان من أبرز مظاهر هذا التحول الزيادة الكبيرة في الإنفاق وإرتفاع فاتورة المرتبات في الميزانية العامة.

 ويظهر الشكل رقم (1) تطور قيمة الإنفاق العام في ليبيا خلال الفترة (1986- 2000)، حيث ارتفع من 5.5 مليار دينار إلى 13.2 مليار دينار خلال هذه الفترة. أي أن الإنفاق العام ازداد بأكثر من الضعفين خلال قرابة 15 عاما.

المصدر: المركز الليبي للدراسات اعتمادا على بيانات مصر ليبيا المركزي.

    وترتبط المالية العامة من ناحيتي الإيرادات العامة والنفقات العامة، ومن ضمنها الأجور، بالإيرادات النفطية، وذلك منذ إكتشاف النفط منتصف الستينيات من القرن الماضي، وقد بينت دراسات عديدة وجود علاقة وثيقة بينهما. واستنتجت “دراسة تحليل واقع الإنفاق العام في ليبيا لأجل الترشيد والإصلاح” المنشورة في مجلة الجامعيي العدد 229، أن السياسة المالية العامة للدولة الليبية لم تسهم بكفاءة في الحفاظ على الموارد المالية ولم يتم إنفاق المال العام بأسلوب يتسم بالرشاد، وانه ينبغي تنفيذ تدابير الإصلاح وضبط أوضاع المالية العامة في جانب إدارة الموازنة، وفي جانب الإيرادات والنفقات العامة.

    وبات جليا لدى أهل الاختصاص أهمية وجود آلية لتنفيذ برامج الإنفاق الحكومي الرشيد ومنها سياسة الأجور. ومع عدم توفر بيانات دقيقة ومتكاملة عن مقدار الأجور خلال السنوات التي تضمنها الجدول أعلاه، إلا إنها بالقطع شكلت نسبة مرتفعة، ذلك أن السنوات المشار إليها هي التي شهدت سيطرة الدولة على النشاط الاقتصادي حتى صار الملاذ الرئيسي للباحثين عن العمل وهم كثر.

المرحلة الثانية: تطور الأجور خلال الفترة (2001- 2010)

  شهدت بداية الألفية زيادة في حجم الإنفاق العام في ليبيا حيث ارتفع من 7.5 مليار دينار عام 2001 إلى 40.7 مليار دينار عام 2010، وبزيادة تربو عن ستة أضعاف خلال عقد واحد من الزمن.

       المصدر: المركز اعتمادا على بيانات مصرف ليبيا المركزي.

  وفي سياق قيمة الأجور ضمن الانفاق العام في تلك الفترة فقد شهد باب المرتبات تطورا كبيرا من 11.7 مليار دينار عام 2007 إلى 15 مليار دينار عام 2010، وذلك وفقا للبيانات التي يعرضها الشكل رقم (3)، وبنسبة بلغت 52% من اللإنفاق العام سنة 2007 ، ونحو 40% عام 2010.

       المصدر: إعداد المركز اعتمادا على بيانات مصرف ليبيا المركزي.

المرحلة الثالثة: تطور الأجور خلال الفترة (2011- 2022)

  تظهر بيانات الجدول رقم (1) الزيادة المرتفعة في الأجور والمرتبات وما في حكمها والتي تضاعفت بسبب التوسع في التوظيف في مختلف الوزارات والمؤسسات الحكومية وإنشاء وحدات إدارية تتوافق مع التوجه الديمقراطي (المفوضية العليا للانتخابات، هيئة الدستور، هيئة مكافحة الفساد، وزارة رعاية أسر الشهداء والمفقودين، هيئة المحاربين..الخ). كما تظهر بيانات الفترة (2014- 2016) انخفاضا في إجمالي الأجور والمرتبات وما في حكمها من سنة إلى أخرى لتسجل أدنى مستوياتها سنة 2016 بنحو 19 مليار. ويرجع هذا الانخفاض إلى التدقيق في الوظائف والمرتبات بمطابقة الرقم الوطني، وكذلك تأجيل سداد العلاوات والترقيات ومقابل العمل الإضافي. وفي المقابل، أظهرت بيانات الفترة (2017- 2022) ارتفاعا في إجمالي الأجور والمرتبات وما في حكمها، ويرجع ذلك لصرف العلاوات والزيادات السنوية والترقيات ومقابل العمل الإضافي وتطبيق الجدول الموحد للمرتبات.

جدول رقم (1) الإنفاق العام والأجور في ليبيا خلال الفترة (2011- 2022)

السنواتالإنفاق العامالمرتبات والأجورنسبة الأجور إلى المصروفات العامة
201123.317.575.1
201253.918.734.7
201330.926.886.7
201443.823.654
201536.120.356.2
201628.719.166.5
201732.620.663.2
201839.323.660
201945.824.553.5
202037.321.858.4
202185.733.138.6
202293.647.1350.4

                     المصدر: المركز اعتمادا على بيانات مصرف ليبيا المركزي.

  ويلخص الشكل رقم (4) تطور قيمة الإنفاق العام وقيمة الأجور والمرتبات في الموازنة العامة في ليبيا خلال الفترة (2011- 2022)، حيث يتضح ارتفاع الانفاق من 23.3 مليار دينار ليبي عام 2011 إلى 93.6 مليار دينار العام 2022م، مما يشير إلى ارتفاع كبير يزيد عن ثلاثة أمثال، وذلك رغم أن هذه الفترة قد شهدت اضطرابات سياسية وأمنية لم تعرفها ليبيا من قبل، تمخض عنها انقسام سياسي وصراع بلغ ذروته في منتصف العقد.

المصدر: المركز اعتمادا على قاعد بيانات مصرف ليبيا المركزي. النشرة الاقتصادية أعداد مختلفة.

 كما ارتفعت حصة  المرتبات والأجور -كونها المكون الأول للإنفاق العام- حيث زادت من 17.5 مليار دينار إلى 47.1 مليار دينار بين عامي 2011 و2022. ويوضح الشكل رقم (5)، تطور نسبة الأجور والمرتبات إلى المصروفات العامة في ليبيا والتي اتسمت بالتقلب الحاد خلال الفترة (2011- 2022)، وهو ما يرجع بالأساس إلى الظروف والسياسية والأمنية المضطربة، كما سبقت الإشارة، حيث بلغت هذه النسبة نحو 70% وفقا لـتقرير الرقابة الإدارية العام 2017.

المصدر: إعداد المركز.

   كما يلخص الجدول رقم (2) هيكل النفقات العامة في ليبيا لعام 2022، والتي يتضح فيها أن الأجور تعادل نسبتها 50% من إجمالي الإنفاق.

جدول رقم (2) هيكل الإنفاق العام ونسبة الأجور به عام 2022

        المصدر: مصرف ليبيا المركزي. النشرة الاقتصادية. الربع الرابع. 2022. ليبا.

والخلاصة أن الأجور في ليبيا تعتمد وبصورة كبيرة على الإيراد النفطية، وأنها لا تتأثر كثيرا بالتغير السلبي في الإيرادات (تراجعها فترات إغلاق النفط)، إذ تلجأ الدولة إلى الاحتياطي لسد الفجوة،  كما أنها تشكل البند الأكبر في الانفاق العام، وهذا في حد ذاته خلل كبير في وضع الموزانة العامة وفي طبيعة الاقتصاد الليبي.  

  ويعود السبب في هذا الخلل الكبير إلى تحميل الخزانة العامة عبئ إدارة الاقتصاد وتقديم كافة الخدمات العامة ووعاء التوظيف حتى بلغ إجمالي القوة العاملة في ليبيا 2.3 مليون شخص في عام 2022، مقارنة بـ  1.1 مليون شخص عام 1990، وذلك فقا لبيانات منظمة العمل الدولية. بينما يبلغ عددهم في تونس نحو 700 ألف موظف وعامل وفي المغرب نحو مليون.

أيضا نلخص إلى أن نسبة المشاركة في قوة العمل (كنسبة مئوية من السكان في الفئة العمرية 15 -64) تبلغ نحو 50% من السكان، وهي نسبة مرتفعة جدا، وتدعو إلى الحاجة الملحة لوجود سياسة للأجور تتسم بالكفاءة وأن الزيادة المستمرة في مرتبات موظفي الدولة  تعقد الوضع المالي ولا تجدي المستفيدين منها حيث تلتهمها معدلات التضخم الذي يرتفع بارتفاع فاتورة الإنفاق العام.

  وأخير، فإن التحكم في فاتورة المرتبات يتطلب إصلاحا في تركيبة الاقتصاد الليبي والميزانية العامة، مع تبني  سياسة متسقة وذات كفاءة عالية للأجور التي تسجل النسبة الغالبة من الإنفاق العام، وهو ما يؤدي إلى رفع كفاءة العنصر البشري الليبي وتحسين مستوى معيشته، وهي الغاية التي يطمح إليها جمع العاملين في القطاع العام.