Skip to main content

أصدر ديوان المحاسبة الليبي يوم 25 أكتوبر 2023 تقريره السنوي لعام 2022، وذلك في ثوبه الجديد؛ إذ اتسم بالتطور الهائل في تقييم السياسات العامة المطبقة، وكذلك التحسن الكبير في تشخيص أوجه الخلل والقصور في أسلوب إدارة الأموال الدولة، وذلك بهدف تحسين أداء المنظومة الحكومية الليبية ومؤسساتها العامة، ومساعدتها على الاتجاه نحو البناء المؤسسي الرشيد.

وفي السنوات الأخيرة، أصبح ديوان المحاسبة صوتاً قوياً، ويؤدي دوراً مهما في الرقابة على السلطة التنفيذية، وذلك في ظل تفاقم معدلات الفساد في الأوساط الليبية. وقد أنجز عمليات مراجعة مفصلة على الإدارة المالية للمؤسسات العامة، وكذلك تقييم أدائها. ومنذ العام 2011 وهو يصدر تقريراً سنوياً مهماً، إذ اتهم فيه أكثر من مرة السلطتين التنفيذية والتشـريعية بضعف الأداء وسوء الإدارة وانعدام الشفافية وسوء التنفيذ عبر مجموعة واسعة من القطاعات، الأمر الذي ساهم في تعزيز المساءلة ورفع مستوى الوعي الليبي في القضايا الشائكة في القطاعات الحكومية المختلفة.

وقد حققــت إجـــراءات الـــديوان نتـــائج ملموســـة في ترشـــيد الإنفـــاق وتـــوفير المـــوارد، بالإضـافة إلى إيقاف عدد كبير مـن أشـكال الفسـاد والظـواهر السـلبية وحـالات التحايـل والتلاعــب بالمــال العــام للاســتحواذ عليهــا بـدون وجــه حــق نتيجــة لمــا تكشَّـف للديوان من نتائج تطبيق هذه القـرارات، الـتي أُحيلت إلى جهـات التحقيـق.

ومن هذا المنطلق، يتجلى دور الأجهزة العليا للرقابة المالية في تطوير أداء أجهزة الدولة من خلال المهام الأساسية المنوطة بهذه الأجهزة وخاصة المهام الرقابية، وحث هذه الأجهزة على تطوير أنظمة الدولة المالية والإدارية والمحاسبية الموجودة، وتطوير إجراءات الممارسة فيها، والعمل على تحسين مخرجاتها، بحيث يكون الهدف هو ترشيد الموارد وضمان الاستخدام الأمثل لها.

أولاً: منهجية تقرير ديوان المحاسبة الليبي لعام 2022.

قام ديوان المحاسبة باتباع المنهج الوصــفي في إعداد تقرير ديوان المحاسبة الليبي لعام 2022، وذلك لمراجعة نتائج السياســات العامــة المرتبطــة بالمــال العــام وإدارة المؤسســات وتقيــيم الأنشــطة والممارســات المالية المختلفة، حيث تم تقسيم التقرير إلى 23 فصلاً رئيسياً مقسمة وفقاً للقطاعـات والأنشـطة الاقتصادية المختلفة، وتم تخصيص الفصول السبعة الأولى للجوانــب الماليـــة والاقتصادية والاستثمارية، حيــث تضــمنت الأنشـــطة المرتبطة بإدارة الميزانية والتخطيط والقطاع النفطي والمصـرفي والاستثماري على التوالي، أمـا الفصول مـن الثامن إلى الثاني عشر فخُصّصت لمجلس الوزراء والجهات والوزارات التابعة، فهــــي تعــــرض الأنشــــطة المرتبطــــة بقطاعات الخارجية والعدل والدفاع والداخلية على الترتيب، في حـين خُصصت كافة الفصول مـن الثالث عشر إلى الثالث والعشرين لتقيـيم أداء القطاعات الاقتصادية المختلفة بالدولة، والإبـلاغ  الداخلي للديوان. وجدير بالذكر أن هذا التقريـر شمـل نتـائج عمـل الـديوان مـن فحـص وتقيــيم مؤسســـات الدولــة وأنشـــطتها المختلفــة باســتثناء تصــرفات الحكومـة المؤقتــة وحكومة الاســـتقرار الــتي تعمـل بالمنطقـة الشــرقية، التي لا تزال بياناتها غير معلنة إعلانا رسميا.

ثانياً: السمات المميزة لتقرير ديوان المحاسبة لعام 2022.

جاء تقرير ديوان المحاسبة هذا العام أكثر وضوحاً وشجاعة في تعرية الفساد المستشري في مؤسسات الدولة الحكومية وشبه الحكومية، وإطلاق العديد من صافرات الإنذار وذلك في حالةاستمرار الأوضاع الأمنية والسياسية القائمة، وأخذه في الاعتبار تكلفة الفرصة البديلة.

وقد شمل تقرير ديوان المحاسبة لعام 2022 موضــوعات جوهريــة تهــم المرحلــة الراهنة، وتوصَّل الديوان إلى نتائج مفزعة وخطيرة، خاصة فيما يخص تقيـيم النفقات العامة ولاسيما المرتبات والدعم وأداء المؤسسـات الســــيادية المتمثلــــة في الخارجية والداخلية والمصرفية وبعــض ملفات فساد النظام السـابق مثـل العقـود والاسـتثمار والمشـاركات الأجنبيـة في الاقتصاد، وغيرها.

وفي هذا الصدد، تأتي نتائج تقرير ديوان المحاسبة لعام 2022 متوافقة مع نتائج تقرير الفساد العالمي الذي تصدره منظمة الشفافية، التي تؤكد ارتفاع حجم الفساد في الاقتصاد الليبي وتراجع قدرة الحكومة الليبية على محاربته خلال الأعوام الماضية، إذ جاءت ليبيا وفق مؤشر مدركات الفساد العالمي للعام 2022 في المرتبة 171 من بين 180 دولة شملها التقرير بنحو 17 نقطة من 100 نقطة لتصبح ضمن الدول العشر الأكثر فساداً في العالم.

شكل رقم (1) مستوى النزاهة في ليبيا من 100 نقطة خلال الفترة (2009 – 2022)

ثالثاً: أبرز المحاور التي تناولها تقرير ديوان المحاسبة لعام 2022.

كشف تقرير ديوان المحاسبة عن بعض المؤشرات والأرقام الاقتصادية المهمة، وذلك على النحو التالي:

  • ارتفاع حجم النفقات العامة في ليبيا خلال عام 2022 بحوالي 68 مليارا بنسبة 66.8%، وأصبحت نسبة النفقات العامة من الإيرادات العامة نحو 96% مقارنة بحوالي 84% خلال عام 2021 نتيجة للتوسـع في الإنفاق التســـيـيري المتمثــل في المرتبـات بزيادة 18 مليار دينار والدعم بزيادة قدرها 25 مليـار دينـار، أما المصـروفات العموميـة والتنمويـة فالزيـادة فيها ترجــع إلى الترتيبـات الاستثنائية المصروفة للمؤسسة الوطنية للنفط بقيمة 34 مليار دينار، إذ بلغـت إيرادات ليبيا خلال عام 2022 نحو 177 مليـار دينار بينما بلغـت نفقـاتهـا نحو 171 مليـار دينـار. ورغم انخفاض إنتاج النفط ما بين عامي 2021 و2022 إذ بلغت الكميات المنتجة نحو 347 و286 مليون برميل على التوالي، إلا أنه لوحظ ارتفاع قيمة إيرادات الدولة النفطية خلال عام 2022 عن عام 2021، إذ بلغت 22.8 و27.5 مليار دولار على التوالي، ويرجع ذلك إلى ارتفاع أسعار النفط في السوق العالمية.

جدول رقم (1) مقارنة بين الإيرادات العامة والنفقات العامة لعامي 2021 و2022

(مليار دينار)

البيان20212022الفرقنسبة النمو (%)
الإيرادات العامة122.1176.954.844.9
النفقات العامة102.3170.668.366.8
فائض الميزانية19.86.3
نسبة النفقات العامة من الإيرادات العامة (%)83.896.4

المصدر: إعداد قسم الاقتصاد والطاقة بالمركز بالاعتماد على تقرير ديوان المحاسبة لعام 2022، ص 9.

  • انخفاض فائض الموازنة العامة خلال عام 2022 ليصل إلى 6 مليارات دينار فقط مقارنة بحوالي 20 مليار دينار خلال عام 2021 وذلك ليتفاقم عجز الموازنة خلال الفترة (2012-2022) بنحو 34 مليار دينار، إذ بلغـت إيرادات ليبيا خلال الفترة (2012 – 2022) نحو 622 مليـار دينـار، بينما بلغـت نفقـاتهـا في الفترة ذاتها نحو 656 مليـار دينـار.

شكل رقم (2) تطور الإيرادات والنفقات العامة خلال الفترة (2012 – 2022)

المصدر: إعداد قسم الاقتصاد والطاقة بالمركز بالاعتماد على تقرير ديوان المحاسبة لعام 2022، ص 9.

  • تنامي قيمة مرتبات الوظيفة العامة في ليبيا خلال عام 2022 لتصل إلى 50 مليـار دينـار مقـابـل 33 مليـار دينـار عـام 2021 أي بزيـادة قـدرهـا 18 مليـار دينـار تتمثـل في قيمـة الإفراجـات جميعا منها والتســويات والتغير في معدل احتســاب المرتبات، ولا يمكن تحديد القيمة الفعلية للمرتبات أو توقعها في ظل اسـتمرار ظاهرة التعيينات العشــــوائية.

شكل رقم (3) تطور حجم مرتبات الوظيفة العامة في ليبيا خلال الفترة (2012 – 2022)

تفاقم سـياسة دعم المحروقات: تعتبر فاتورة دعم المحروقات هي الأعلى إطلاقا بـــين كافة أنــواع النفقات الأخرى للدولــة رغم مـا تظهــره بيانــات وزارة المالية أو المـصرف المركـزي مــــن أرقام، إلا أن الحقيقــــة مغـايرة تماما لهـا، إذ وصــلت قيمــــة دعــــم المحروقــــات خـلال العـام 2022 إلى نحو 83 مليــار دينـار مـا يعادل 17.2 مليار دولار. ويقـدر متوســــط حصـــة المواطن الليبي من قيمـة دعم المحروقات في عام 2022 نحو  1000دينار شـهريا أي نحو 5000 دينار شـهريا للأسـرة.

جدول رقم (2) دعــــم المحروقــــات خــــلال العــــام 2022

المصدر: إعداد قسم الاقتصاد والطاقة بالمركز بالاعتماد على تقرير ديوان المحاسبة لعام 2022، ص 37.

  • ارتفاع قيمة الدعم: ارتفعت ميزانية الدعم من 37.4 مليار دينار في عام 2021 وارتفعت إلى 62.7 مليار دينار في عام 2022، وذلك بزيـادة قـدرها 25.3 مليار دينار، وهذه إشـــارة واضـحـة بتوجـه الحكومة نحو سـياسة الإنفاق الاستهلاكي.
  • الأثر السلبي لسـياسة توريد المحروقات بالمبادلة بنفط خام: حيث حجبت وزارة المالية خلال عام 2022 أكثر من 42 مليار دينار من إيرادات للدولة الليبية، وترتب على هذه السياسة تشــــــوه بيانات الدولة المالية وإظهارها على غير حقيقتها، إذ انخفضـت إيرادات الدولة ونفقاتها بالبيانات الرســمية الصــادرة من وزارة المالية ومصـرف ليبيا المركزي بمقدار الثلث خلال العام 2022م ما ســـيؤثر في إقفال الحساب الختامي للدولة مستقبلاً.

 جدول رقم (3) تشــــــوه بيانات الدولة المالية نتيجة سـياسة توريد المحروقات بالمبادلة بنفط خام

المصدر: تقرير ديوان المحاسبة لعام 2022، ص 41.

  • فساد وزارة الخارجية باختلاس المال العام وإهداره، وذلكعبر صرف مرتبات لموظفين مستقيلين وآخرين بلغوا سن التقاعد، إذ صرفت الوزارة مرتبات لعدد موظفين أعلى مما يرد بوزارة المالية، وإحالة مرتبات لموظف محلي في سفارة مالطا رغم استقالته في 2021، وصرف مرتبات لموظف بديوان وزارة الخارجية دون صلة وظيفية سواء بعقد أو تعيين، واستمرار صرف مرتبات بعض العاملين رغم بلوغهم سن التقاعد، وتبين صرف مرتبات لموظفين في السفارات دون وجود أرقام وطنية واستخدام رقم وطني لأكثر من موظف، كما تبين إحالة مرتبات عدد من الموفدين الدبلوماسيين ممن تجاوز السن القانونية.
  • فساد وزارة الداخلية والجهات التابعة لها إذ أنفقت حوالي 6 مليارات دينار خلال عام 2022 وتوسعت الوزارة في صرف المكافآت المالية المستمرة والمقطوعة دون ضوابط، وبلغ إيجار المباني ومصاريف النقل والشحن 2.2 مليون دينار، كما بلغت نفقات السفر والمبيت نحو 1.1 مليون دينار، وتم صرف 488 ألف دينار لصالح شركة الزهاء للسفر والسياحة نظير حجوزات فندقية وتذاكر سفر إلى عدد من موظفي الوزارة وأسرهم، كما بلغ بند الإعاشة للعاملين حوالي 160 ألف دينار مع عدم إرفاق الأعداد الفعلية المستفيدة أو ما يفيد استلام الوجبات.
  • ارتفاع خسائر المصـرف الخارجي التي وصلت حتى تاريخه أكثر من 16% من مساهماته، وظهرت على شكل خسائر فاقت ربع مليار دينار ليبي (75 مليون دولار).

يعد ما سبق كلّه موجزا بسيطا مما قدمه ديوان المحاسبة في تقريره لعام 2022 عن الأوضاع المتردية في ليبيا التي تنذر بحجم الكارثة التي قد تقع، وحجم التداعيات التي يصعب حصرها أو التنبؤ بها إذا استمرت هذه الأوضاع المتردية على حالها.

وفي الختام، يمكن القول: إنه في ضوء الأرقام التي عرضها تقرير ديوان المحاسبة لعام 2022 فيما يخص ارتفاع حجم النفقات العامة وتنامي قيمة المرتبات وتفاقم سـياسة دعم المحروقات وفساد وزارتي الخارجية الداخلية وارتفاع خسائر المصـرف الخارجي،  ينبغي تشكيل فريق مالي متخصص يضع لكافة المؤسسات الحكومية قواعد تضمن الحد من هذه الخروقات والانهيارات في جسد الدولة الليبية اعتماداً على ما جاء من التوصيات والمقترحات لتدارك وإنقاذ ما يمكن إنقاذه، وكذلك الحاجة إلى إقرار خارطة طريق اقتصادية تشمل ترميم الوضع الاقتصادي ومجابهة الفساد وتحسين قدرة المؤسسات الحكومية على تطبيق القانون وتحقيق الانضباط المؤسسـي، ودولة المؤسسات والقانون وترسيخ مبدأ المحاسبة والمسؤولية.