Skip to main content

مقدمة

ملف المناصب السيادية صار جزء من المسار السياسي والتفاوض الجاري بين مجلس النواب والمجلس الأعلى للدولة، وهو اليوم يحظى بأهمية سياسية كونه صار أحد مفاتيح الانغلاق السياسي حول الاساس الدستوري والقانوني للانتخابات، حتى بعد التوافق الذي وقع بين المجلسين وثار حوله جدل واسع.

تحديد المناصب السيادية التي وقع حولها نزاع نصت عليه المادة 15 من الاتفاق السياسي، وهي محافظ المصرف المركزي، ورئيس ديوان المحاسبة، ورئيس جهاز الرقابة الإدارية، ورئيس هيئة مكافحة الفساد، ورئيس وأعضاء المفوضية العليا للانتخابات، ورئيس المحكمة العليا، والنائب العام.

اتفاق بوزنيقة حول المناصب السيادية

بعد جولات عديدة من التفاوض، انتهت مفاوضات بوزنيقة المغربية العام 2020م إلى اتفاق تقسيم المناصب السيادية حسب المحاصصة الجارية بين الاقاليم التاريخية الثلاث، وتم التفاهم بين مجلس النواب والمجلس الأعلى للدولة على إسناد منصب محافظ مصرف ليبيا المركزي ورئاسة هيئة الرقابة الإدارية إلى المنطقة الشرقية، ورئاسة ديوان المحاسبة والنائب العام الليبي للمنطقة الغربية، فيما يمنح منصب رئيس المحكمة الليبية العليا ورئيس هيئة مكافحة الفساد للجنوب.

وتضمن الاتفاق على ألية محددة يتم من خلالها اختيار من سيشغلون تلك المناصب ، وتقوم الألية على فتح باب الترشح لكل المناصب، فيختار كل مجلس سبع مرشحين للمناصب التي أسندت إليه حسب الاتفاق ويحيلهم لنظيره ليختار من بينهم ثلاث ثم يختار المجلس المعني بالمناصب محل التوافق واحد من الثلاث الذين أحيلوا إليه ليشغل المنصب.

وللتوضيح، يختار مجلس النواب سبع مرشحين لمنصب محافظ المصرف المركزي، ويحيلهم للأعلى للدولة فيستبعد أربعة ويعيد ثلاث مرشحين للنواب فيختار من بينهم المحافظ.

وبالمثل بالنسبة للمناصب التي أسندت لمجلس الأعلى للدولة كرئيس ديوان المحاسبة حيث يختار سبعة مرشحين من بين من تقدموا لشغل المناصب، ويحيلهم لمجلس النواب الذي يختار ثلاثة من بين المرشحين السبعة فيختار الأعلى للدولة من يشغل منصب رئيس الديوان من بين الثلاثة المرشحين من قبل مجلس النواب.

فيما يتعلق بالمجلس الأعلى للدولة الذي تقدم خطوة على مسار المناصب السيادية من خلال التصويت بالخصوص، فإنه معنى اختيار مرشحين لرئيس ديوان المحاسبة، رئيس مفوضية الانتخابات، نائب محافظ المركزي، ووكيل هيئة الرقابة ومكافحة الفساد، باعتبار أن المناصب قد اسندت إلى المنطقة الغربية وفق اتفاق بوزنيقة.

وينبغي التنبيه إلى أن منصب رئيس المحكمة العليا والنائب العام خرجا من التفاوض بعد أن حسم التعيين من قبل مجلس النواب بتعيين مستشار جديد للمحكمة وتثبت الصديق الصور كنائب عام.

المناصب السيادية والتوافق وتوحيد السلطة التنفيذية

بحكم أنه ملف توافقي ضمن توافقات الصخيرات، صار لزاما ان يفعَّل، والجدل يدور حول تراتبية الملفات وموقعها في سلم أولويات إدارة الأزمة الليبية. حماس الأطراف الداعمة لتسوية ملف المناصب السيادية أولا نابع من أنه سيساهم في حفز التفاوض حول الأساس الدستوري والقانوني للانتخابات ويدعم جهود توحيد السلطة التنفيذية وتشكيل حكومة واحدة. وهو اتجاه لا يمثل إجماعا أو رأي الأغلبية في المنتظم السياسي الرسمي والشعبي، ويتحفظ أخرون على مقاربة التوافق على المناصب السيادية، وينظر العديد من المراقبين إلى اتفاق بوزنيقة كصفقة قد ينجم عنها تعثر المسار السياسي الخاص بالانتخابات وبالتالي إطالة عمر الأزمة.

المصرف المركزي محور التدافع

تعثرت مفاوضات المناصب السيادية وكان العامل الأساسي في تعثرها هو التجاذب والخلاف حول منصب محافظ المصرف المركزي. ويدرك أطراف النزاع أن الأهم في روزنامة المناصب السيادية هو منصب المحافظ الذي يمثل خزانة الدولة. قلق المعارضين لاتفاق المناصب السيادية أنه وقع في جو تدافع وصراع، وجاء وفق خطة معدة من قبل رئاسة مجلس النواب لانتزاع المصرف المركزي بعد صراع وتدافع دام لثماني سنوات اتخذ فيها مجلس النواب قرارات لضمه ودعم حربا شنها حفتر علها تمكن المجلس من السيطرة على المركزي، وإذا به ينجح عبر التفاوض أن يحقق مراده، حسب رأيهم.

وللمصرف المركزي وضعه الخاص بين المؤسسات السيادية في الدولة كونه يمثل الجهة المعنية بالإشراف على إدارة الموارد المالية للدولة، فقد صار المحافظ، خلافا للمعروف والمألوف قانونا، المتحكم في الموارد المالية، خاصة النفقات العامة، ويبرز العامل الدولي ليكون الفيصل في شرعية وصلاحية من يرأس هذه المؤسسة، إذ لم ينجح مجلس النواب في إقالة المحافظ الحالي، الصديق الكبير، برغم أنه المخول قانونا بذلك، وذلك لأن المجتمع الدولي رفض التعامل مع المكلف من مجلس النواب بديلا عن الكبير واستمر في إعطاء الشرعية للأخير.

اتفاق المناصب السيادية في قلب الصراع

وفقا لموقف المعارضين، بدا اتفاق بوزنيقة حول المناصب السيادية مجحفا ومنحازا لمصالح مجلس النواب، وعلى حساب مواقف الجبهة الغربية التي رأت أن المفاوض عن المجلس الأعلى للدولة خذلها بتسليم منصب المحافظ لجبهة طبرق والرجمة. فحسب هؤلاء فإن مجلس النواب المصر على عدم شرعية حكومة الوحدة الوطنية التي يقودها عبدالحميد الدبيبة وداعم للحكومة الليبية برئاسة فتحي باشاغا سيبعث الروح في الثانية من خلال توفير التمويل لها ويجفف منابع الأولى.

عامل الثقة أساسي في تقدير صحة المسار التوافقي وإيجابيته، وتخوف شريحة واسعة ضمن الجبهة الغربية عائد إلى إنعدام ثقتهم في الطرف الآخر، ويقينهم أن رئاسة مجلس النواب ومن خلفها من أنصار وداعمين ينطلقون في مقاربتهم التفاوضية حول المناصب السيادية من نهج المغالبة والهيمنة على مفاصل الدولة وأهم المؤسسات الفاعلة.

التحفظ الدولي على مسار المناصب السيادية

عبر دبلوماسيون غربيون عن عدم رضاهم على المسار التفاوضي بين مجلسي النواب والأعلى للدولة، والذي أرجأ التوافق على الأساس الدستوري والقانوني للانتخابات وركز على المناصب السيادية، وربما يأتي هذا التحفظ إدراكا من تلك الأطراف أن تقسيمة المناصب السيادية حسب بوزنيقة قد تذكي النزاع وتعرقل الانتخابات، ذلك أن اجتماع السلطة التنفيذية والمالية والعسكري في يد طرف واحد (الحكومة والمصرف المركزي والجيش) قد يهدد المكاسب التي وقعت على المسارات السياسية والأمنية ويدفع بالبلد إلى الحرب من جديد، لهذا كان تحرك البعثة الأممية سريعا من خلال الإعلان عن مبادرة للتعجيل بإجراء الانتخابات عن طريق جسم بديل، الأمر الذي قاد إلى تركيز المجلسين على الأساس الدستوري والقانوني فتم إصدار التعديل الدستوري الثالث عشر الذي هو بمثابة قاعدة دستورية، وتشكيل لجنة مشتركة للتوافق على القوانين الانتخابية، ليتأخر ملف المناصب السيادية إلى حين الانتهاء من الترتيب للانتخابات.

الخلاصة

يذهب مراقبون إلى أن جدل المناصب السيادية يرجع إلى الأجواء الملغومة التي تحيط بالمسارات الحوارية والتفاوضية، وأساس العلاقة بين طرفي النزاع ومن يمثلهم من وفود مفاوضة، والتي أساسها القطيعة والرغبة في إقصاء الآخر، وليس التوافق على قاعدة التوازن الذي يضمن نجاح التوافقات ويعود بالاستقرار على البلاد.

ملجس النواب، أو الممسكين بزمام المسؤولية والقرار فيه، لا يعترفون بالشريك السياسي، المجلس الأعلى للدولة، ويغلب على ظنهم أنه مجرد جسم استشاري ينبغي أن لا يتعد دوره الاستشارة، وأن مجلس النواب هو المعني بشكل أساسي ومنفرد بترتيب الوضع السياسي والاقتصادي والأمني في البلاد، وأن في وسعهم استخدام ما يتاح لهم من إمكانيات لتحقيق ذلك، ولا يرجعون عن موقفهم هذا إلا تحت الضغوط الخارجية.

المجلس الأعلى للدولة، بالمقابل، ومن خلفه أنصاره وداعميه، يرفض استعلاء نظيره السياسي، لكنه يدرك أنه الحلقة الأضعف في التدافع، أو هكذا يبدو الأمر لرئاسته وعدد وازن من أعضائه، وبالتالي عليه أن يرضي “غرور” شريكه في العملية السياسية ويخرج بالحد الأدنى من المكاسب.

إلا إن كتلة عريضة وصلبة ضمن الجبهة الغربية التي من المفترض أـن يمثلها الأعلى للدولة ترى أن موقف الجبيهة الغربية التفاوضي ليس بضعيف، والضعف يمكن في رئاسة الأعلى للدولة، التي لم تستثمر أوراق قوية تمسك بها.

في هذا المناخ السياسي جرت مفاوضات المناصب السيادية، ووقف هذه الرؤى تتعاطى الأطراف المختلفة مع نتائجها، وسيعتمد إقرارها على نجاح المجلس الأعلى للدولة على تسويق رؤيته ضمن جبهته، واتجاه المسار السياسي المعني بالأساس الدستوري والقانوني، والموقف الدولي من هذه التطورات، خاصة بعد التعديل الدستوري الجديد ومبادرة المبعوث الخاص للأمين العام للأم المتحدة.