مثيرة هي التصريحات التي أطلقها الرئيس التونسي قيس سعيد على هامش زيارة له للمؤسسة التونسية للأنشطة البترولية بتاريخ الجمعة 17 مارس 2023 حيث ذكر إن “تونس لم تحصل إلا على الفتات من حقل البوري النفطي، الذي خاضت بسببه صراعاً قضائياً مع ليبيا أمام المحاكم الدولية”، مشيراً إلى أنه “كانت هناك نية لتقاسم الحقل مع طرابلس في فترة الرئيسين التونسي الحبيب بورقيبة والليبي معمر القذافي” مضيفا في نفس السياق أنه “بعد 12 جانفي (يناير) 1974 رُفض مقترح التقاسم وساءت العلاقات بين البلدين، وفي ماي (مايو) من عام 1977 أتت ليبيا بشركة أميركية كانت على وشك الإفلاس ووضعت مصطبة لاستخراج البترول فتوترت العلاقات الليبية – التونسية مرة أخرى”
وقال سعيد أن “هناك بوادر لاستغلال عديد من الحقول الأخرى، ويمكن أن نكتفي من الغاز الطبيعي إضافة إلى وجود إمكانية لإنتاج الكهرباء من الطاقة المتجددة”فيم فهم منه البعض وضع حد لكل التكهنات بمآل ما قام به.
ماذا عن حقل البوري؟
يعتبر حقل البوري الذي تم اكتشافه سنة 1976 وبدأ الإنتاج فيه في 1988 بقدرة تصل إلى نحو 30 ألف برميل نفط يومياً من 38 بئراً خامس أكبر المنصات البحرية في أفريقيا، والأكثر إنتاجاً في البحر المتوسط، ويقع على بعد 120 كيلومتراً شمال الساحل الليبي بينما تصل الاحتياطات المثبتة من النفط الخام فيه إلى أكثر من 70 مليون برميل وحوالي 3.5 تريليون متر مكعب من الغاز الطبيعي بإنتاج سنوي محتمل يصل إلى ستة مليارات متر مكعب.
النزاع حول البوري
خاضت ليبيا وتونس نزاعاً قضائياً من مرحلتين أمام المحكمة الدولية بلاهاي بين عامي 1978 و1982، في خضم خلاف في شأن رواسب صخرية متعددة المعادن تضم كميات هائلة من البترول والغاز والثروات السمكية والمعدنية، كجزء من خلافات حدودية ورثتها الدولتان الجارتان عن المستعمر، كان أكثرها حدة الخلاف المتعلق بالحدود البحرية الذي وصل إلى حد الصدام العسكري أحياناً عرض البحر بين القطع البحرية للبلدين.
يجدر التذكير أنه على رغم أن ليبيا اقترحت آنذاك على تونس اقتسام ثروات الجرف القاري، فإن الرئيس التونسي الحبيب بورقيبة رفض ذلك وللتاريخ فإنه رغم التصعيد التونسي، إلا أن ليبيا استبعدت خيار الالتجاء إلى المحاكم الدولية متمسكة بالاستغلال المشترك للجرف القاري، قبل أن تقبل بالمطالب التونسية التي رتب لها مجموعة من أساتذة القانون ( من ضمنهم العميد الصادق بلعيد الذي اختاره الرئيس سعيد أخيراً لرئاسة لجنة الدستور) من أجل رفع قضية أمام المحكمة الدولية بلاهاي، وهو ما تم بالفعل عام 1978.
اختار الصادق بالعيد رفقة الدبلوماسي نجيب البوزيري، أن تستند اللجنة في دفاعها إلى التاريخ والجيومورفولوجيا، وعلى الحقوق التونسية في صيد الإسفنج فيم اعتمدت ليبيا في دفاعها على الجيولوجيا وتحرك الطبقات الأرضية.
حكم محكمة العدل الدولية
في 24 فبراير 1982 أصدرت محكمة لاهاي قراراً نهائياً ورسمياً يؤكد السيادة الكاملة لليبيا على الجرف القاري، من دون إعطاء أي نصيب لتونس. وحيثت قرارها بأن الحدود بين ليبيا وتونس يجب أن تتبع خطا يبدأ من النقطة التي تلتقي فيها الحدود البرية بين البلدين في الساحل، وتمتد إلى البحر لمسافة 12 ميلا بحريا. بعد هذه النقطة، يجب تحديد الحدود بخط متساو في البعد عن أقرب نقطتين على الساحل الليبي وتونس.
قبلت الدولة التونسية الحكم إلا أنها تقدمت لاحقا لمحكمة العدل الدولية بلاهاي بطلب إعادة النظر في قرار المحكمة قصد تعديله، لكن بتاريخ 10 ديسمبر 1985 صدر حكم ثان يقضي برفض الدعوى القضائية وتقبلت تونس الحكم في المرة الثانية.
الرد الليبي حول تصريحات قيس سعيد
لم تتأخر ردود الأفعال في ليبيا حول التصريح التونسي فقد أفاد رئيس لجنة الطاقة بمجلس النواب عيسى العريبي بعد يوم من التصريح بأن “اللجنة البرلمانية تدرس تصريحات الرئيس التونسي قيس سعيد، حول حقل البوري النفطي والجرف القاري، للرد بشكل رسمي على هذه التصريحات” كما أكد العريبي أنه “لا يمكن القبول أو السماح بالمساس بثروات ليبيا التي هي ملك للشعب الليبي تحت أي ظروف أو مبررات”.
أما على مستوى الجهاز التنفيذي فقال وزير النفط والغاز بحكومة الوحدة الوطنية محمد عون إن “محكمة العدل الدولية أصدرت حكماً سنة 1982 بناءً على اتفاق مسبق بين ليبيا وتونس للجوء إليها، وأقرت الأحقية الكاملة لليبيا في جميع الحقول البحرية التي تشغلها وتملكها الآن” مؤكدا أن القضية تم الفصل بها دوليا منذ ثمانينيات القرن الماضي لصالح الدولة الليبية.
غير أن الحكومة ممثلة في رئاسة الوزراء لم تعر تصريحات الرئيس التونسي أي اهتمام، وحصرت الرد في كلام وزير النفط والغاز، وقد يعود السبب إلى عدم رغبة الحكومة في التصعيد وتأكدها من أن الموقف التونسي لن يتجاوز ما صدر عن الرئيس.
مواقف الخبراء
أفاد عدد من المختصين أنه لا حقوق نفطية لتونس في البوري الذي توجد به شراكة بين مؤسسة النفط الليبية وشركة “إيني” الإيطالية، التي تبلغ حقوقها في الحقل نسبة 17% وليبيا 83%، بحسب الاتفاق الموقع في يناير 2008. كما حذر محللون اقتصاديون من محاولة بعض دول الجوار إعادة فتح ملفات نزاعات الثروة النفطية وترسيم الحدود في إشارة إلى كل من تونس و مصر.
عموما يرى متابعون أن تصريحات الرئيس التونسي حول حقل نفطي محسوم أمره لصالح ليبيا منذ عقود بمثابة شغل الانتباه عن التردي الاقتصادي والمالي الذي وصلت إليه تونس في عهده خاصة أن إثارة ملف حقل البوري لن يقلب معادلة الطاقة في تونس، ولن يغير من الواقع شيئ.
الوضع الاقتصادي التونسي
لا شك أن تونس خسرت خلال السنوات الماضية مئات الملايين من الدولارات بسبب تراجع مستوى الاستثمار وسط مغادرة شركات طاقية كبرى للحقول نتيجة عدم استقرار الوضع الاجتماعي والسياسي في البلاد سيما بعد خفض وكالة “موديز” للتصنيف الائتماني العالمية تصنيف تونس إلى درجة Caa2 كما أن تونس تعاني من ارتفاع عجز الطاقة الذي يؤثر كثيراً في ميزانها التجاري فقد سجلت انخفاضاً في استقلال الطاقة لتستقر عند حدود 50%، مقابل 53% في نهاية نوفمبر 2021 .
فيم لا تزال تونس تكابد من أجل التوصل إلى اتفاق نهائي مع صندوق النقد الدولي بشأن قرض بقيمة 1.9 مليار دولار مقابل حزمة إصلاح اقتصادي تواجه صداً من الأطراف الاجتماعية في المقابل تهدف ليبيا إلى زيادة إنتاجها من النفط الخام إلى مليوني برميل يومياً في مدى زمني يتراوح بين ثلاث وخمس سنوات، وفق إستراتيجية أفصحت عنها المؤسسة الوطنية للنفط في مطلع 2023 في ظل حالة من الاستقرار يشهدها إنتاج النفط بسقف إنتاج تجاوز 1.2 مليون برميل يومياً.
في غضون ذلك أعلنت هيئة المسح الجيولوجي الأمريكية (USGS) عن اكتشاف حوضين كبيرين للنفط والغاز يمتدان على مساحات شاسعة تمتد بين ليبيا وتونس وقد أفادت الوكالة الحكومية الأمريكية أنه وفقا للتقديرات الأولية، يمكن أن تتضاعف احتياطيات النفط والغاز الليبية نتيجة الاكتشاف، بينما يمكن أن تصبح تونس منتجًا رئيسيًا للطاقة في شمال إفريقيا.
خاتمة
تعود جذور العلاقات التّونسيّة اللّيبيّة إلى مراحل غابرة في التّاريخ وهو ما تجلّى في مختلف الحقب، سواء منها ما تعلّق بالامتداد الجغرافي المفتوح بين الإقليم أو بالنّضال المشترك قبل الاستقلال أو فيما تلاه من بناء البلديْن بعد فترة الاستقلال.
وتبيّن كل الشّواهد التّاريخيّة بين البلدين أنّ تحدّيات البناء الاقتصادي المشترك والتّبادل التّجاري والرّخاء الاقتصادي في البلدين مرتبط أشدّ الارتباط انطلاقا من التّجارة الغدامسية في الفترة التي ربطت إفريقيا جنوب الصّحراء بشمالها والتّي كانت تونس وطرابلس محطّتيها النّهائيّتين الرّئيسيّة وما زالت دار الفزازنة بقلب العاصمة التّونسية خير دليل على ذلك مرورا بما اصطلح عليه بـ “اقتصاد لوكربي” الذّي كان عقب الحظر الشّامل الذّي فرض على ليبيا والذّي كان لتونس نصيب في رفعه بطرق متعدّدة وتزويد السّوق اللّيبيّة بكلّ احتياجاتها، وحقق لها مكاسب اقتصادية جمة، نهاية بالمساهمة الاقتصاديّة التّونسيّة في إنجاح الثّورة في ليبيا والإسناد المتبادل الذّي لولاه لما نجحت الثّورة في البلدين.
وقد شرعت دولة الاستقلال في تقنين هذه العلاقات الأخويّة الهامّة لتكون في مستوى انتظار الشّعبين وذلك عبر توقيع اتّفاقيّة للصّداقة وحسن الجوار فتم تنويع مجالات التّعاون وتكثيفها. والملاحظ الحرص على إيفاد أفضل العناصر الدبلوماسية لتمثيل الدّولة في الاتجاهين .
عدد الاتّفاقيات الليبية التونسية يفوق 100 اتّفاقية كان للاقتصاد نصيب الأسد منها بنسبة تناهز الثلثين، وهو ما يعكس قوة التشكبيك، غير أن كل هذا الارتباط قد يكون مهددا إذا ما تواصلت التصريحات المتشنجة وغير المناسبة و تم حصر العلاقات بين البلدين في مناكفات وتوظيف سياسي من هذا الجانب أو الآخر .
علاقات تاريخية وأواصر من القربى والتعاون تشمل كل الأبعاد الاقتصادية والاجتماعية والأمنية يتعين على النشطاء وصناع القرار في البلدين السمو بها عن كل التجاذبات والتوظيف لا لما سبق من أهمية اجتماعية وديموغرافية وتاريخية فحسب بل لأن كلفة التنافر والاختلاف أعلى بكثير من كلفة التعاون والإستقرر الذي يعود إيجابا على الطرفين سيما إذا كان في إطار من المصالح المشتركة والمنافع المتبادلة التي تحترم سيادة كل دولة وقواعد حسن الجوار.



