مقدمة:
شكل القرار الأخير لمجلس النواب الليبي بتاريخ الإثنين 18 أغسطس. والقاضي بتعيين صدام خليفة حفتر نائباً للقائد العام للجيش الليبي التابع له، وخالد خليفة حفتر رئيساً للأركان العامة، ونقل الفريق عبد الرزاق الناظوري إلى منصب مستشار للأمن القومي، تطور في إعادة هيكلة القيادة العسكرية العليا “بشرق ليبيا”. ويأتي هذا التطور في سياق بيئة سياسية وعسكرية غاية في التعقيد، تتسم بانقسام، بل الخلاف على السلطات العسكرية العليا، وتداخل الصلاحيات في هذا المضمار بين مجلس النواب والمجلس الرئاسي، وهو ما يعكس طبيعة خاصة للسلطات العسكرية والسياسية في ليبيا بعد سنوات من الانقسام والصراع.
رصد الحدث:
ذكرت مصادربرلمانية متطابقة، إضافة إلى بيانات رسمية من مجلس النواب والمجلس الرئاسي أنه انعقدت جلسة مجلس النواب يوم الاثنين، 18 أغسطس 2025، في مدينة بنغازي، برئاسة عقيلة صالح، وبحضور نائبيه فوزي النويري ومصباح دومة. ونتج عن هذه الجلسة.
- تعديل القانون رقم (1) لسنة 2015 م الصادر عن مجلس النواب، والقاضي بتعديل القانون رقم (11) لسنة 2012 م، الصادر عن المؤتمر الوطني العام. بشأن صلاحيات المستويات القيادية للجيش الليبي وبإعادة منصب القائد العام للجيش الليبي وتحديد اختصاصاته، والذي قد نص في مادته الأولى على أن “يعاد منصب القائد العام للجيش الليبي، ويتولى تحت إشراف القائد الأعلى للجيش الليبي قيادة الجيش الليبي في السلم والحرب، وهو مسؤول عن كل ما يتعلق بقيادته وتطويره وضبطه، واستعداده للقتال وانجازه لمهامه. ويصدر بتعيين القائد العام قرار من القائد الأعلى للجيش الليبي، على أن يؤدي اليمين الدستورية أمام مجلس النواب. ويكون القائد العام مرؤوس مباشرة للقائد الأعلى للجيش الليبي، وفي حالة غياب القائد العام يكلف القائد الأعلى من يحل محله مؤقتا طبقا لما هو مقرر في التشريعات النافذة. ويكون القائد العام الرئيس المباشر لرئيس الأركان العامة للجيش الليبي”.
- تعيين صدام خليفة حفتر نائباً للقائد العام للجيش الليبي،وأقر مجلس النواب تعديل القانون العسكري الخاص بصلاحيات المستويات القيادية العليا، دون الإعلان عن تفاصيل التعديل، ما يطرح تساؤلات حول الشفافية والدستورية.
- تعيين خالد خليفة حفتر رئيساً للأركان العامة.
- نقل الفريق عبد الرزاق الناظوري من رئاسة الأركان العامة إلى منصب مستشار الأمن القومي.
وقد رحب مجلس النواب في وقت سابق بقرار خليفة حفتر بمناسبة الذكرى 85 لتأسيس الجيش الليبي، تعيين نجله صدام حفتر نائباً للقائد العام للقوات المسلحة العربية الليبية التابعة للبرلمان. معتبراً إياها تعبيراً عن الثقة بالكفاءة العسكرية لصدام حفتر، بينما حذر نائب رئيس المجلس الرئاسي عبد الله اللافي من أن هذه الإجراءات قد تعمق الانقسام العسكري، مؤكداً ضرورة التزام القوانين الوطنية واتفاق جنيف 2021 بشأن صلاحيات القائد الأعلى للجي، الذي منح صفة القائد الأعلى للجيش الليبي للمجلس الرئاسي مجتمعاً.
المسار العسكري لصدام حفتر:
ولد صدام خليفة حفتر سنة 1991، وقد كان أول ظهور له بشكل علني على الساحة الإعلامية في 2016، وذلك بحضوره حفلاً عسكرياً في الأردن، لتخرج عدد من عناصر القوات التابعة للقيادة العامة للقوات المسلحة التابعة إلى والده خليفة حفتر، ثم كشفت مصادر عسكرية بعد ذلك عن منح صدام حفتر رتبة نقيب، بما يخالف القواعد والأعراف العسكرية المتبعة في ليبيا. وقد صرح آنذاك المتحدث باسم الجيش الليبي بقيادة خليفة حفتر، أحمد المسماري بأن “رتبة نقيب منحتها المؤسسة العسكرية في الأردن بشكل شرفي لابن حفتر تقديراً لجهود والده”. وأشار بأن “صدام كغيره من الشباب الليبي المنظم للجيش، تحصل على دورة لمدة تسعة أشهر في الأردن، وهو في هذه المناسبة يحضر حفل تخرج زملائه”. وفي ديسمبر 2016، ظهر صدام حفتر في حفل عسكري في الأردن أثناء تخريج طلاب الكلية العسكرية، وهو يرتدي الزي العسكري. وكان حينها حاصل على رتبة رائد، ثم رُقي لرتبة مقدم في ترقية استثنائية، منحها له رئيس مجلس النواب عقيلة صالح، وبعد ذلك بوقت قصير، رُقي صدام حفتر إلى رتبة عقيد في ديسمبر 2022، وفي مايو 2023، رُقي لرتبة عميد. وفي سبتمبر 2023 رُقي إلى رتبة لواء. وفي 7 مارس 2024، أعلنت الأكاديمية العسكرية للدراسات العليا والاستراتيجية المصرية حصول اللواء الركن صدام خليفة حفتر على درجة دكتوراه في الفلسفة بالعلوم العسكرية. وفي أغسطس 2024 تمت ترقيته إلى رتبة فريق، وفي يونيو 2025 تمت ترقيته إلى رتبة فريق أول، وتكليفه رئيس ركن القوات البرية.
خالد خليفة حفتر: صعود عسكري في ظل القيادة العامة
يعد خالد خليفة حفتر أحد أبرز أبناء المشير خليفة حفتر، القائد العام لـ “القيادة العامة للقوات المسلحة” في شرق ليبيا، حيث برز اسمه بشكل متزايد في السنوات الأخيرة ضمن البنية العسكرية التي أسسها والده. يحمل خالد رتبة فريق أول، وقد شهدت مسيرته ترقياً استثنائياً بعد أن أصدر والده القرار رقم (357) لسنة 2023 في 17 أكتوبر 2023، بمنح 138 ضابطاً ترقية إلى الرتبة الأعلى، كان من بينهم خالد.
وفي يوليو 2023، خطا خالد خطوة أكبر نحو تثبيت موقعه داخل هياكل القيادة العامة، حيث أصدر والده القرار رقم (220) لسنة 2023، الذي قضى بإنشاء كيان جديد يحمل اسم “رئاسة أركان الوحدات الأمنية”. وبموجب هذا القرار، تم تعيين خالد رئيساً لهذا الركن المستحدث الذي أُلحق مباشرة بالقيادة العامة. ولا يتبع رئاسة الأركان العامة، برئاسة الفريق أول عبد الرازق الناظوري. كما شمل القرار ضم وحدتين بارزتين إلى تبعية هذا الركن الجديد هما: اللواء 106 مجحفل، الذي كان يتولى قيادته خالد نفسه، ولواء خالد بن الوليد بقيادة الرائد يحيى سعد يحيى البرعصي.
وقد شكل هذا المسار التدرجي تمهيداً لخطوة أكثر أهمية؛ إذ أصدر مجلس النواب الليبي في 18 أغسطس قراراً بتعيين خالد خليفة حفتر رئيساً للأركان العامة للجيش الليبي، خلفاً للفريق أول عبد الرازق الناظوري. ويعد هذا القرار محطة مفصلية في مسيرته العسكرية، إذ انتقل من قيادة وحدات قتالية خاصة ضمن ركن مستحدث، إلى تولي أعلى منصب عسكري تنفيذي في الهيكل الرسمي للقوات المسلحة التابعة للقيادة العامة.
ويعكس تعيينه على رأس الأركان العامة استمرارا لاستراتيجية خليفة حفتر في إسناد مواقع متقدمة داخل المؤسسة العسكرية لأبنائه، في مسعى لترسيخ حضور العائلة ضمن بنية القيادة والسيطرة في المناطق الخاضعة لنفوذهم.
من هنا، يمكن القول إن صدام، وخالد حفتر يجسدان حالة من التوريث العسكري والسياسي داخل هيكل القيادة العامة، حيث لا تقتصر أدوارهما على قيادة تشكيلات قتالية تقليدية فقط، بل تمتد إلى إدارة أعلى منصب عسكري رسمي، وهو ما يجعلهما أحد أبرز الوجوه المرشحة للتأثير في مستقبل المؤسسة العسكرية الليبية ضمن سياق الانقسام القائم في البلاد.
الخلاصة التحليلية
أولاً: في السياق المحلي:
القرارات الأخيرة لمجلس النواب (18 أغسطس 2025) بتعيين صدام حفتر نائباً للقائد العام وخالد حفتر رئيساً للأركان العامة تمثل تحوّلاً بنيوياً في هيكلة القيادة العسكرية بشرق ليبيا. هذا التحول يعكس مسارين متوازيين:
- التوريث العسكري والسياسي: حيث جرى تمكين أبناء خليفة حفتر من المناصب العليا في الجيش، ما يرسخ نموذج “العسكرة العائلية” داخل المؤسسة العسكرية.
- تنازع الشرعيات: إذ يتقاطع قرار مجلس النواب مع اتفاق جنيف 2021 الذي منح صفة القائد الأعلى للجيش للمجلس الرئاسي مجتمعاً؛ ما يفتح الباب أمام جدل قانوني ودستوري، يعمّق الانقسام السياسي بين السلطات في ليبيا.
حكم الفرد القائم على السلطة والاستبداد عادة ما يقود إلى التوريث، وهذا عادة ما يكون على حساب معايير المهنية والانضباط، كما يسهم في زيادة تآكل المهنية العسكرية، وتحول المؤسسة العسكرية إلى أداة سياسية خاضعة للولاءات العائلية. ويترتب على ذلك مخاطر هي:
- على المستوى المؤسسيانهيار العقيدة العسكرية الوطنية: تتحول المؤسسة العسكرية من “جيش وطني” وظيفته حماية الحدود والسيادة إلى “جيش خاص” مهمته حماية مصالح عائلة أو نخبة.ضعف سلسلة القيادة والانضباط: الضباط والجنود سيتعاملون مع المؤسسة بمنطق الولاء الشخصي لا النظامي؛ ما يؤدي إلى انتشار التململ، والتمرد، أو الانشقاقات.تعطيل أي محاولات مستقبلية لإعادة توحيد الجيش الليبي، أو دمج التشكيلات المسلحة ضمن مؤسسة مهنية.
- على المستوى السياسي
- تكريس نموذج الحكم العسكري العائلي الذي يتناقض مع مسار التحول الديمقراطي، ويغلق الباب أمام بناء مؤسسات دولة مدنية.
- تحويل الجيش إلى أداة ابتزاز سياسي تُستخدم ضد الخصوم المحليين؛ مما يعمق حالة الانقسام ويطيل عمر الصراع.
- إنتاج شرعية متنازع عليها: كل قرار أو إجراء عسكري سيُطعن فيه على أساس أنه غير مهني وغير وطني، وصادر عن غير ذي صفة.
- على المستوى الأمني – الميداني
- تزايد احتمالية تفكك الوحدات القتالية عند أي صدام عسكري واسع، لأن الولاءات ستتشظى بين “العائلة – القبيلة – الجهة السياسية”.
- فتح المجال أمام تغلغل المرتزقة والميليشيات الخارجية، حيث تصبح المؤسسة أقل قدرة على الدفاع عن نفسها دون دعم خارجي.
- رفع مستوى العنف الأهلي: لأن المجتمع سيتعامل مع الجيش على أنه قوة طرفية منحازة، لا مؤسسة وطنية محايدة.
ثانياً: في السياق الإقليمي:
الإقليم يتعامل مع ليبيا كساحة نفوذ متقدمة، والمتمثلة في الدول التالية:
- مصر تدعم إعادة هيكلة القيادة في الشرق بما يعزز موقع المشير حفتر وأبنائه، خاصة مع ربط صدام حفتر بالمؤسسات العسكرية المصرية (دكتوراه عسكرية في 2024).
- الإمارات ترى في استمرار عسكرة الشرق عبر العائلة ضماناً لمصالحها الاستراتيجية (الطاقة – الموانئ – النفوذ الأمني).
- تركيا قد تعتبر الخطوة تحدياً مباشراً لمعادلة التوازن العسكري في الغرب، ما قد يدفعها لزيادة حضورها اللوجستي والعسكري في طرابلس ومصراتة، وربما تطوير تحالفات أمنية جديدة داخل الغرب، دون أن يلغي هذا إمكانية التغاضي واستغلال هذه التطورات لصالح تمرير أجندتها، وتحقيق مصالحها في ليبيا.
ثالثاً: في السياق الدولي:
- الولايات المتحدة وأوروبا قد تنظران إلى هذه الخطوة باعتبارها تكريساً لسلطة عائلية عسكرية؛ ما يعقد المسار السياسي، ويضعف جهود توحيد المؤسسة العسكرية برعاية أممية.
- روسيا ستوظف هذا التغيير لصالح تعزيز نفوذها عبر مجموعة “الفيلق الأفريقي”، إذ ترى في تثبيت آل حفتر فرصة لبناء شراكة استراتيجية مستقرة بشرق وجنوب ليبيا، تدعم من خلالها نفوذها في إفريقيا
- الأمم المتحدة تجد نفسها أمام مأزق مضاعف، بين الالتزام بمسار توحيد المؤسسة العسكرية، وبين واقع جديد يفرض حضور أبناء حفتر في أعلى المناصب؛ مما يقوض التفاهمات السابقة (5+5 العسكرية، وجنيف 2021).
الاستنتاج استراتيجي:
القيادة العسكرية في شرق ليبيا تسير نحو نموذج التوريث العسكري – السياسي على شاكلة أنظمة عربية شهدت عسكرة عائلية مثل سوريا. وهذا النموذج يحمل ثلاث دلالات:
- إضعاف فرص بناء جيش وطني موحد قائم على المهنية والمؤسسية.
- تعميق الانقسام السياسي – العسكري بين الشرق والغرب، مع احتمال إعادة تنشيط جبهات الصراع حال حدوث أي تصادم حول الشرعية.
- تدويل الصراع الليبي بشكل أكبر، حيث ستتزايد تناقضات التدخل الإقليمي والدولي كلما تعمقت سلطة “العائلة العسكرية” على حساب التوافق الوطني.
وبالتالي، فإن مستقبل المؤسسة العسكرية الليبية مرهون بمدى قدرة الفاعلين الليبيين على كسر منطق التوريث، وإعادة بناء منظومة القيادة وفق معايير مهنية.



